تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ومن لم يتأله له على طريقة النبوات إذ هي الواسطة بين الحق والخلق، تأله لغيره على طريقة مخترعة، فالجهل بالسنة النبوية المحمودة لازمه الوقوع في البدعة الدينية المذمومة. إذ القلب لا يتسع للعوض والمعوض منه، والغمد لا يتسع لسيفين، فإذا اغتذى الإنسان بغذاء خبيث قلت رغبته وانكسرت نهمته إلى الغذاء الطيب.

قال ابن تيمية، رحمه الله، في "اقتضاء الصراط المستقيم":

"وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما أحدث قوم بدعة إلا نزع الله عنهم من السنة مثلها» .............. فالشرائع أغذية القلوب، فمتى اغتذت القلوب بالبدع لم يبق فيها فضل للسنن". اهـ بتصرف.

ولذلك كان العلم النافع والعمل الصالح ما جاء به الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم من أخبار النبوات في الإلهيات وسائر السمعيات، وما شرعه من الحكميات، فلا يثمر العمل صلاحا في القلب إلا إذا كان خالصا من الشرك، صوابا على طريقة الشرع، وذلك، كما تقدم، مما استأثرت به علوم النبوات إذ هي فرع عن الوحي المعصوم، وهي كافية، لمن تأمل، لسد كل حاجة علمية قلبية، وكل حاجة عملية بدنية، فالنبوة قد استوعب الملة: علوما وأعمالا، أصولا وفروعا، وذلك أصل جليل امتازت به هذه الملة على وجه الخصوص ونحلة أهل السنة على وجه الخصوص.

فهي ثنائية لا انفكاك بين ركنيها: غنى الرب الذاتي، وفقر العبد الذاتي مهما بلغت مكانته الدينية أو الدنيوية، وفي التنزيل: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)، و: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)، و: (قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا)، و: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ) .............. إلخ من أوصاف الفقر الذي زاد أولئك شرفا إذ أظهروا الفقر على وجه الاختيار، فذلك فقر الموحدين، فقر: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)، فوصفه بالعبودية التي لا تنفك عن افتقار إلى المعبود في أشرف المقامات، فالفقر فقران:

فقر اضطراري يشترك فيه كل الموجودين: مؤمنهم وكافرهم، برهم وفاجرهم.

وفقر اختياري لا يقوم إلا بالموحدين من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

وإذا طغى صاحب الفقر الاضطراري فقدح في غنى الرب، جل وعلا، الذاتي، فإنه يقع لزوما في نقيضه من الغلو في وصف الفقير لذاته بأوصاف الغنى الذاتي، وفي التنزيل:

(لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ): فهذا جفاء في مقام الغني بذاته.

و: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ): فهذا لازمه من الغلو في مقام الفقير لذاته.

ومقابل تينك العبوديتين: العامة والخاصة: ربوبيتان: عامة وخاصة أيضا:

فالربوبية العامة تسد فاقة الموجودين الاضطرارية، ربوبية: الرحمن، الذي وسعت رحمته الكونية كل شيء، فيصل أثرها إلى كل خلقه، وإن كانوا ألد أعدائه، وفي التنزيل: (وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ)، فذلك متاع رباني عام تسد به حاجة الأبدان.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير