والربوبية الخاصة تسد فاقة الموحدين الاختيارية، ربوبية: الرحيم، الذي اختص أولياءه بالرحمة الدينية، فهداهم إلى التوحيد: دلالة وتوفيقا وتثبيتا، وهداهم على الصراط في دار الجزاء فاجتازوه سالمين، وهداهم إلى مساكنهم في أعالي الجنان: (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ). فتلك عذاء القلوب النافع الذي لا ينال إلا على جسر التوحيد: تصديقا بخبر الوحي وامتثالا لأمره. فالنبوات، كما تقدم، طريق الهداية الشرعية، أعظم المنن الربانية، فلا يتصور صلاح للعالم المشهود إلا بنبوة، إذ بها صلاح الأديان بالتوحيد وصلاح الأبدان بالتشريع، فبالأحكام العلمية تصلح القلوب وبالأحكام العملية تصلح الأبدان، ولا يتصور عمل صالح إلا فرعا عن علم نافع صحيح منقول عن المعصوم نقلا تقوم به الحجة الرسالية، فالعلم هو التصور السابق، والعمل هو: الحكم اللاحق. وحيث صح التصور ابتداء صح الحكم انتهاء.
يقول ابن تيمية، رحمه الله، في "الصارم المسلول":
"والقدر الذي يمكن العقل إداركه بنظره فإن المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم نبهوا الناس عليه وذكروهم به ودعوهم إلى النظر فيه حتى فتحوا أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا.
والقدر الذي يعجز العقل عن إدراكه علموهم إياه وأنبأوهم به فالطعن فيهم طعن في توحيد الله وأسمائه وصفاته وكلامه ودينه وشرائعه وأنبيائه وثوابه وعقابه وعامة الأسباب التي بينه وبين خلقه بل يقال: إنه ليس في الأرض مملكة قائمة إلا في نبوة أو أثر نبوة وإن كل خير في الأرض فمن آثار النبوات". اهـ
يقول الشيخ ابن رجب، رحمه الله، في معرض بيان العبوديتين والربوبيتين: العامة والخاصة:
"فمعرفة العبد لربه نوعان:
أحدُهما: المعرفةُ العامة، وهي معرفةُ الإقرار به والتَّصديق والإيمان، وهذه عامةٌ للمؤمنين.
والثاني: معرفة خاصة تقتضي ميلَ القلب إلى الله بالكلية، والانقطاع إليه، والأُنس به، والطمأنينة بذكره، والحياء منه، والهيبة له، وهذه المعرفة الخاصة هي التي يدور حولها العارفون، كما قال بعضهم: مساكينُ أهلُ الدُّنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيبَ ما فيها، قيل له: وما هو؟ قال: معرفةُ الله - عز وجل -.
ومعرفة الله أيضاً لعبده نوعان:
معرفة عامة وهي علمه سبحانه بعباده، واطِّلاعه على ما أسرُّوه وما أعلنوه، كما قال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ}، وقال: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ}.
والثاني: معرفة خاصة: وهي تقتضي محبته لعبده وتقريبَه إليه، وإجابةَ دعائه، وإنجاءه من الشدائد، وهي المشار إليها بقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما يحكى عن ربِّه: (ولا يزالُ عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنَّوافِل حتَّى أُحِبَّه، فإذا أحببتُه، كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يُبصرُ به، ويدَه التي يبطِشُ بها، ورجلَه التي يمشي بها، فلئن سألني، لأُعطِيَنَّهُ، ولئن استعاذني لأعيذنَّه)، وفي رواية: (ولئن دعاني لأجيبنّه) ". اهـ
وقد جمع ابن تيمية، رحمه الله، ذينك الركنين في قوله:
والفقر لي وصف ذات لازم أبدا ******* كما الغنى أبدا وصف له ذاتي.
فإذا ثبت ذلك الفقر اللازم الذي لا ينفك عن العبد، ظهر وجه الخطأ في طريقة أهل الطريق من الفقراء، في عدة مقالات منها:
قياسهم الباري، عز وجل، وهو الغني بذاته، على العبد، وهو الفقير بذاته، ولازم هذا القياس: تشبيه الخالق بالمخلوق، وهو لازم مقالة من غلا في نبي أو إمام أو ولي ......... إلخ، ولو كان فاضلا في نفسه بل قد يكون نبيا معصوما، فجعل له من الوظائف الربانية ما لا يصلح لمربوب فقير إلى أسباب إيجاده وإبقائه، فلسان حاله: وصف الله، عز وجل، بنظير ذلك الفقر، فقد أعجزه أمر الكون، حتى احتاج إلى أن يقيم أقطابا تصرف ملكه!، فصار ملكا لا يحكم، وإنما الحكم لسواه، تعالى الملك عز وجل عن أوصاف العجز، فلما تقرر ذلك التصور الفاسد في جانب الربوبية، أثمر حكما فاسدا في جانب الألوهية فصارت العبادة، لا سيما في أوقات الشدة، تصرف لتلك الأقطاب، إذ بيدها مقاليد التصريف لأحوال هذا الكون، وذلك عين ما نفاه الله
¥