تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فالحكم بالتمكين دائر مع علة التشريع وجودا وعدما، فلهذه الأمة سنة تختلف عن سنن بقية الأمم، وتاريخها شاهد بذلك، فحيث التزمت جادة الشرع مكن لها في الأرض فتقدمت الأمم، وحيث حادت عنه صارت في الذيل فضلا عن تحقيره والاستهزاء به وبحملته من العلماء ونبزهم بألقاب: التطرف والإرهاب الفكري والجمود والرجعية ........ إلخ كما هو مشاهد في هذه الأيام، في مصر، على وجه الخصوص على خلفية الصراع الدائر بين التيار الديني بمؤسساته الفاعلة كجبهة علماء الأزهر والتيار العلماني المتطرف الذي جاهر بعض أفراده بالزندقة صراحة مع غياب سيف الشرع الرادع.

الشاهد أن ذلك الضيف، ويظهر من كلامه دماثة خلق وتعظيم للدين ولكنه كما تقدم ينطلق من خلفية ثقافية أملاها الواقع المعاصر، تكلم عن مفهوم الدولة: وكانت الثورة الفرنسية هي النموذج العام، وكان: "شارل ديجول" العظيم، كما وصفه، النموذج الخاص!.

فالدولة قبل الثورة الفرنسية كانت دولة الملك: أو دولة الـ: "أنا"، كما هو حال كل طاغوت أرضي يخلع على نفسه ألقاب السيادة المطلقة، وهو محض عبد مستخلف!، فالملك يعلنها صراحة: أنا الدولة، فالدستور يوضع لحفظ عرشه، والتراتيب التشريعية والإدارية والتنفيذية، لا تخرج عن فلك مصلحته الخاصة، وإن أضرت بمصلحة الجماعة العامة، وبجواره: كنيسة مداهنة، فسد حالها من قرون بفساد عقدها الديني، فعلومها الإلهية مما يعلم بالضرورة بطلانه سندا ومتنا! فهي محالات ذاتية لا مستند لها من كلام النبوات الصحيحات، فضلا عن فساد علومها الكونية وهو ما أجج الصراع بينها وبين العقول الأوروبية الحرة التي تأثرت بالجوار الإسلامي في حرية البحث في شتى العلوم التجريبية من طب وفلك ...... إلخ، فكانت محاكم التفتيش تطارد من خرج عن سلطان الكهنوت الكنسي، ولو كان قوله مؤيدا بالبرهان العقلي الصريح، والبرهان الحسي الصحيح.

فالملك يؤيدها ليحظى بالحق الإلهي في الحكم المطلق!، وهي تؤيده ليبقى لها نفوذها الكبير ومواردها الضخمة من الإقطاع الجائر الذي كانت شريكة فيه، بل لعلها كانت أعظم الشركاء فيه نصيبا، وهي تبرر رق الإنسان الأوروبي في مزارع الباباوات والنبلاء، فتجعله فرعا عن رق الخطيئة الأولى، فتسخر البشر لمصالحها الآنية باسم الدين!. وهذا أمر يمارسه كل طاغوت سواء أكان طغيانه دينيا، وذلك أمر ظاهر في كل ملة أو نحلة غلب عليها الغلو، فلا بد من طاغوت سواء أكان بابا ما عقده في الأرض لا يحله المسيح عليه السلام في السماء فهو نائبه الأرضي!، أو شيخ له من السلطان الكوني ما صيره قطبا يتصرف في المقادير بالتأثير فله من النيابة الإلهية نصيب!، أو إمام منتظر يتولى الفقيه إدارة الشركة حتى يظهر! فيستأثر بكل سلطان، بحجة أنه نائب المعصوم!. فقدر النيابة قدر مشترك بينهم! وهو قدر يستحق مدعيه الإحالة إلى نيابة أمن الدولة عندنا في مصر!.

فولد هذا الطغيان احتقانا شعبيا، لا سيما مع تردي الأوضاع الاقتصادية، المحرك الأساسي لكثير من الثورات، فهي ثورات بطون في الغالب فلم يتحرك الفرنسيون ابتداء من أجل إرساء قواعد: الحرية والإخاء والمساواة وإنما تحركوا طلبا لرغيف الخبز معقد الولاء والبراء في كثير من المجتمعات لا سيما المجتمعات التي تعاني أزمات اقتصادية حادة، فاستغل محركو الثورة هذا الاحتقان، فكانت الثورة التي قضت على الطغيان الملكي والطغيان الكنسي، فتحقق لهم النصر المزدوج: على الملك بوصفه رأس الهرم السياسي الديكتاتوري وبوصفه رأس الهرم الاجتماعي الإقطاعي عدو النظرية الرأسمالية التي روجوا لها بعد ذلك ليحكموا الخناق على مجتمعات ما بعد الثورة، فحاصل الأمر: استبدال رق مصانع رجال الأعمال برق مزارع الباباوات والنبلاء.

وعلى الكنيسة: فمحوا الأثر الباقي من الدين، ولو كان محرفا، ولكنه على أقل تقدير حفظ لأوروبا نوع تماسك اجتماعي بالتمسك بالفضائل العامة التي يشترك في تعظيمها كل العقلاء، والتي لم يعد لها مكان في أوروبا العلمانية اللادينية: أوروبا الحرية أحد الشعارات الأساسية في الثورة الفرنسية.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير