تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وإذا نظر بعين التدقيق إلى نتائج هذه الجمعيات يرى أنها لم تثمر شيئا ينفع الأمة أو يساعد على النهضة. وكان ضررها خفيا، بحيث لا يظهر إلا للمدقق، مع أن وجودها من حيث هو ضرر كبير، بغض النظر عن النفع الجزئي، وذلك أن الأمة الإسلامية برمتها، بحكم وجود بعض الأفكار الإسلامية، وبحكم تطبيقها لبعض الأحكام الشرعية، وبحكم تمكن المشاعر الإسلامية فيها بتأثير الإسلام، توجد فيها أحاسيس النهضة، وفيها عاطفة الخير، وفيها الميل الطبيعي للتكتل، لأن روح الإسلام روح جماعية، فإذا تركت الأمة الإسلامية وشأنها، تحول هذا الإحساس ـ منطقيا ـ إلى فكر، وانتج هذا الفكر عملا ينهض بالأمة. ولكن وجود الجمعيات حال دون ذلك، لأنها كانت متنفسا لهذه العاطفة المتأججة، وتصريفا لذلك الإحساس في هذه الجزئية من العمل، وهي جزئية الجمعية. فيرى عضو الجمعية أنه بنى مدرسة، أو انشأ مستشفى، أو ساهم في عمل من أعمال البر، فيشعر بالراحة والطمأنينة، ويقنع بهذا العمل. بخلاف ما لو لم تنشأ هذه الجمعية، فان الروح الجماعية تدفعه للتكتل الصحيح، وهو التكتل الحزبي، الذي يوجد النهضة الصحيحة.

وقامت إلى جانب الجمعيات الثقافية والخيرية جمعيات أخلاقية تعمل لنهضة الأمة على أساس الأخلاق بالوعظ والإرشاد، والمحاضرات والنشرات، على اعتبار أن الخلق هو أساس النهضة. وقد بذلت في هذه الجمعيات جهود وأموال، ولكنها لم تكن لهذا نتائج هامة، ونفست عاطفة الأمة بهذه الأحاديث المملولة المكررة المبتذلة. وقد كان قيام مثل هذه الجمعيات مبنيا على الفهم المغلوط كقوله تعالى مخاطبا الرسول صلى الله عليه وسلم " وانك لعلى خلق عظيم " مع أنه وصف لشخص الرسول وليس للمجتمع، ولقوله عليه السلام " إن الله بعثني لتمام مكارم الأخلاق " ولقوله عليه السلام " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " مع أن هذين الحديثين وأمثالهما مما يتعلق بصفات الفرد لا بالجماعة. ومبنيا كذلك على خطأ الشاعر في قوله:

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت

فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

مع أن الأمم لا تكون بالأخلاق، وإنما تكون بالعقائد التي تعتنقها، وبالأفكار التي تحملها، وبالأنظمة التي تطبقها. وكان كذلك مبنيا على الفهم المغلوط لمعنى المجتمع، من أنه مكون من أفراد، مع أن المجتمع هو كل مكون من أجزاء هي: الإنسان، والأفكار، والمشاعر، والأنظمة. وفساده إنما هو آت من فساد الأفكار والمشاعر والأنظمة، لا من فساد الإنسان. وإصلاحه إنما يكون بإصلاح أفكاره ومشاعره وأنظمته.

وكان كذلك مبنيا على ما تركز في الأذهان لدى كثير من المصلحين وعلماء الأخلاق، من أن الجماعة إنما يهدمها الفرد، والفرد إنما تبنيه وتهدمه أخلاقه، فالخلق القويم يجعله قويا، مستقيما، فعالا، منتجا، عاملا للخير والصلاح والإصلاح. والخلق الذميم يجعله ضعيفا مسترخيا، لا نفع منه، ولا خير فيه، ولا هم له في الحياة إلا إشباع شهواته، وإرضاء أنانيته. ولذلك رأوا أن إصلاح الجماعة إنما يأتي من طريق إصلاح الفرد، فأرادوا إصلاح المجتمع بالمنهج الأخلاقي وتوسلوا بالأخلاق على إنهاض الأمة.

وبالرغم من إخفاق جميع الحركات الإصلاحية التي قامت على أساس القاعدة الخلقية فإن الناس لا يزالون مقتنعين بأن هذه القاعدة هي أساس الإصلاح، وأقاموا الجمعيات الإصلاحية على هذا الأساس. مع أن الحقيقة أن وسائل إصلاح الجماعة غير وسائل إصلاح الفرد ولو كان جزءا من الجماعة، لأن فساد الجماعة آت من فساد مشاعرها الجماعية ومن فساد أجوائها الفكرية والروحية، وآت أيضا من وجود المفاهيم المغلوطة عند الجماعة. وبعبارة أخرى آت من فساد العرف العام. وإصلاحها لا يأتي إلا بإيجاد العرف العام الصالح. وبتعبير آخر لا يأتي إلا من إصلاح مشاعر الجماعة، وإيجاد الأجواء الروحية الصحيحة، والأجواء الفكرية التي تتصل بالناحية الروحية، وتطبيق النظام من قبل الدولة. ولا يتأتى ذلك إلا بإيجاد الأجواء الإسلامية، ولا بد من تصحيح المفاهيم للأشياء عند الناس كافة. وبهذا تصلح الجماعة، ويصلح الفرد. ولا يتأتى ذلك بالتكتل على أساس الجمعية، ولا بجعل الأخلاق والوعظ والإرشاد أساسا للتكتل.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير