تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ثم ما هو المراد بقولهم (اللغة العامية) أهو شيء آخر غير العربية؟ إننا إذا تتبعنا الكلمات والتراكيب العامية لم نجد فيها إلا قليلاً جداً من الكلمات المستحدثة عن الخلط، وهذا لا تتألف منه لغة، ولا يصح بسببه القول بأن لغة فيها نصف مليون كلمة لغة ميتة أو قاصرة وليس فيها ألفاظ تدل على المعاني المستحدثة التي يقتضيها التمدن العصري. نعم إن في العامية كلمات عربية ينطق بها كثير من الناس محرفة، وتراكيب عربية لم تُراعَ فيها القواعد النحوية، ولكنا نجد بجانب ذلك أن هذا التحريف وعدم مراعاة القواعد ليس واحداً عند الناس ولا متفقاً عليه بل كل واحد يذهب فيه ما شاء، فهو مختلف باختلاف الأفواه من غير قاعدة ولا رابطة، شأنَ كل تغير يكون حصل لا عن ضرورة إليه، بل عن الجهل، والجهل لا يكون إلا من عدم التعلم. وبسبب حصول هذه التراكيب على غير قواعد اللغة نرى المتكلم مضطراً دائماً بحسب الموضوع إلى الإشارة باليد والوجه وإجهاد نفسه لبيان حقيقة المعنى المقصود، والكاتب يستعيض عن هذه الإشارة والحركات والإجهاد بتخريج عبارته على مقتضى القواعد فيتأنق في إحكام المعنى وتجويد الأسلوب، وذلك شأن الكتّاب في كل اللغات، فإذا كتبنا باللغة المحرّفة غير مراعين رفع الفاعل ونصب المفعول وجر المضاف إليه، وبغير نظر إلى ما يميز المضارع من الماضي، كانت الكتابة غير مفهومة، وكان ذلك بمثابة العدول بالعربية عن شكلها التي نتبادل بها إحساساتنا وأفكارنا بطريقة محكمة. نعم عندنا طريق آخر هو استعمال الإنجليزية (وهي الجارية في تعبير ويلكوكس) بدلاً من السيدة (أي العربية الفصحى) ولا يكون ذلك إلا إذا دفنا السيدة ـ ولعل هذا ليس هو مقصود صديقي ويلكوكس على ما أظن ـ إلا أن هذه السيدة (أي العربية الفصحى) لا ترضى لنفسها بالدفن وهي حية في عنفوان شبابها، ولقد قاومت كل من أراد أن يذهب بنضرتها وصباها في جميع الأوقات، وهي تملك لمقاومة ما يدس لها دائماً من السموم ترياقاً ـ أو لقاحاً ـ تحفظ به سعتها وكمالها، والقرآن المجيد.

وعلى فرض أننا جمعنا تحريفات العامة وأحصيناها ونظرنا في تشابهاتها ووضعنا لها روابط وقواعد واتفقنا على استعمالها فمن ذا الذي يضمن لنا عدم خروج العامة عنها مدفوعين إلى ذلك بالأسباب التي أخرجتهم عن قواعد لغة القرآن؟

إن تحريف العربية الفصحى عند العامة ناشئ عن أسباب هي عين أسباب التحريف الذي يشاهد الآن في اللغات الأوروبية، وهي أسباب طبيعية يظهر معها التحريف في لغة كل أمة، ولا يستغرب ذلك، وإنما يستغرب عدم مقاومته بما يقاومه به غيرنا.

ثم ذكر أساليب الإنجليز في مقاومة تحريف عوامهم للغتهم بما يلقونه من خطب فصيحة في الأندية العامة والمجامع الأدبية والعلمية، وبما يمثل من روايات بليغة في دور التمثيل لتعتاد آذان العامة على الفصيح فتصحح به أساليبها العامية. وأشار إلى انتشار الصحافة والكتب الشعبية وتوسيع دائرة التعليم بالإكثار من المدارس وبتحفيظ أبنائهم شعر شكسبير حتى عمّ التمثل بها على ألسنة الفقراء والأغنياء والعلماء والصناع والعمال. وقال: ونحن عندنا في مقابل ذلك تحفيظ القرآن المجيد لأبنائنا، وشكا من أن ما يحفظ منه في المدارس يومئذ قليل جداً لا يزيد عن جزء عم وتبارك، والذين يحفظونهما يحفظونهما بغير فهم، أما الشعر العربي الفصيح فقلما يعنى بتحفيظه للنشء.

ثم قال إن من وسائل إنجلترا في مقاومة العامية جعلها التعليم كله بجميع فروعه ودرجاته بلغتها دون غيرها، ولا تجيز لأولادها الشروع في تعلم لغة أجنبية إلا بعد أن يتمكن التلميذ من لغته وتتلبس فكرته بها. وقال: ولا تغتفر بريطانيا استعمال لغة غير لغتها في أية مصلحة من مصالحها، ولا تجيز نشر لغة غير لغتها، وبمثل هذا تقاوم العامية عندهم. قال: ومع كل هذه العناية وهذا الاجتهاد في جميع ممالك أوروبا صغيرها وكبيرها، قديمها وجديدها لمقاومة العامية لا يزال في نطق كثيرين من العامة وأهل الضواحي من الإنجليز وغيرهم تحريف وخروج عن قواعد اللغة يجعل كلامهم غير مفهوم بالكلية إلا عند من تعوده كنطق السين زاياً، واستعمال ضمير من يعقل لما لا يعقل؛ وسوء استعمال أزمنة الفعل، ونطق كلمات على غير ما ينطق به العارفون باللغة مما لا يدخل تحت حصر. ومع وجود هذا التحريف لم نسمع أحداً منهم قال بوجوب استعمال هذا الخلط والتحريف بدل اللغة الصحيحة. وهذا مما يطمعنا في أن نرى تلك الوسائل مستعملة عندنا أيضاً فننتفع بها كما انتفع غيرنا.

صحيفة الفتح، العدد 849 (ذو القعدة، 1366)، ص 865 ـ 868.

مقال عن فضائل العربية الفصحى، كتبه عالم مصري قبل 55 سنةمحب الدين الخطيب


منقول

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير