قرار العودة كلّفه وقتا طويلا أقنع فيه زوجته التي كانت رافضة أن تترك بلدها وأهلها وعملها،وأن يزيّن لولديه العالم الجديد الذي هما منه، وفي آخر المطاف وافقوا وانتقلوا جميعا إلى الوطن مع فرحته الكبيرة.
أثناء الرحلة وبينما الطائرة في السماء لم يتوقف الشاب عن التكلّم لأولاده وزوجته على وطنه، وعلى ذكرياته مع إخوته وأصحابه، وعلى أمه كيف كانت الحضن الدافئ الذي يضم بين حناياه العطف والحنان، على سهراتهم العائلية في الشتاء حول الموقد، وعلى قصص والده الواقعية ذات العبر ...
وما إن حطّت الطائرة على أرض الوطن حتى انهمر الدمع من عينيه شلالا، لم يعد يتحمّل وقوف المسافرين وانتظار الباب أن يفتح، يريد الخروج بأسرع ما يمكن، ها هو قد عاد إلى أرض الآباء والأجداد، أرض ولد فيها ونشأ، بلد ضمّ الأحباب وأحلى الذكريات ... ما أصعب سنوات الغربة وما أقساها، كيف استطاع أن يبتعد عن بلده؟؟؟ عن أهله وأصحابه؟؟
وفي صالة الاستقبال وجد حشدا كبيرا في استقباله، أفراد العائلة كلهم والأصدقاء، حتى صاحب الدكان الصغير الذي كان يشتري منه منذ الطفولة الحلوى والسكاكر كان موجودا .. وأكثر ما أثر فيه وقوف والده على عكازين وقد فعلت السنون به ما فعلته، ورغم ذلك أتى وكان في أول الصفوف ..
استقبالهم الرائع كان له أجمل الوقع على القلب، جعله يعود إلى شخصه قبل السفر والتغرّب والزواج، ذلك الشاب الذي كان يعشق وطنه وأرضه ...
بقي بعده أياما وهو متلهف لمعرفة أخبار الجميع في البلد، الأهل والأصحاب ... كان يمشي في الشوارع غير مصدق أنه عاد إليها، أخيرا عاد ابن الوطن إلى وطنه وأهله، كل شيء تغيّر، الناس كبرت، وملامح البلدة تغيرت فقد عرف العمران طريقه إليها، إلا أهله لم يتغيّروا، فقد بقيت أمه الحضن الذي يضم أفراد العائلة، وبقي الأب في هيبته وعنفوانه .. وبقيت لهفة الإخوة والأخوات على بعضهم البعض .. أين كان من هذا كله؟؟ وأين ألمانيا وماديتها وهذا الحبّ المتدفّق هنا؟؟ كم خسر كثيرا عندما سافر وتغرّب ... لكن ولله الحمد قد عاد .. أخيرا عاد ليصحح الوضع الذي وضع نفسه فيه .. الحمد لله أنه أتى بعائلته ليروا بأنفسهم كل هذا .. وعليه أن يسعى الآن بتسجيل ولديه في المدرسة والبحث عن عمل له ..
لكن زوجته وولديه لم يتقبلوا حياتهم الجديدة .. وكيف سيتقبلونها بعد أن كانوا في عالم مختلف تمام الاختلاف عن العالم الذي هم فيه الآن؟ عالم كله حضارة وسهولة، لا مكان للعواطف، كل ما فيه آلات تتحرّك، كما أن أهله لم يستطيعوا تقبّل زوجته غير العربية وتصرفاتها الغربية.
وبسبب بحثه عن عمل كان يضطر ولأول مرة منذ زواجه أن يصرف وقتا طويلا في بيته مع عائلته التي ما كان يعرف عنها الكثير، وصار يصطدم بتصرفات زوجته التي تختلف عن تقاليده وتقاليد مجتمعه، كما انتبه إلى أن ولديه تشربا تقاليد أمهما وعاداتها ولم يأخذا من أبيهما أي شيء، وهذا أمر طبيعي يا ولدي، فهما لم يكونا يريانه إلا سويعات جد قليلة في اليوم، وبدأ يقارن بين زوجته ومشاعرها المقتضبة وبين زوجات إخوته وأصدقائه ومشاعرهن الملتهبة على أزواجهن وأولادهن، بدأ ينظر إليها كيف تطالبه بالمساواة في كل صغيرة وكبيرة، وكيف هن زوجات الآخرين شمعات تذوب لتضيء لأحبائهن طريق الحياة.
بقي على هذه الحال أكثر من سنة، كان يرى فيها نظرات أمه المشفقة وهي تشعر بما يعانيه.
بعد سنة من كل هذا يا بني، ورغم أنه وجد عملا جيدا يعتبر من أفضل الأعمال في الوطن، رغم ذلك قرر الهروب ثانية على المواجهة وقرر العودة إلى البلد الذي أتى منه.
اتخذ هذا القرار بعد صراع مع النفس عنيف، وتحت ضغط من الزوجة والولدين. أخيرا فرّ بمأساته وهو يتجرع الألم والمرارة ...
كتب على نفسه البعد مجددا عن الأهل والوطن، والعيش في بلاد المادة والآلات .. ما كان أمامه أي خيار آخر .. لقدكان أمامه إما التضحية بنفسه أو بأسرته ... آه يا ولدي ما أصعب على الرجل أن يجد نفسه محشورا في الزاوية كما صاحبنا هذا ... وليتك تتصور الألم الذي قاساه وهو يودع عائلته من جديد، يودعهم هذه المرة وهو على يقين انه لن يعود إليهم إلا للزيارة، وليتك تتصور الشعور الذي شعر به والطائرة تحط على أرض الغربة ثانية .. كان يشعر أنه يذهب إلى السجن المؤبد بقدميه.
والآن ... له عشرون سنة في هذا البلد، لا يزور بلده إلا زيارات متقطعة، ويعيش يا بني في بيت لا حياة فيه، بيت خاو ناضب من أي مشاعر، حتى الزوجة فقد عافته بعد أن كبر وصارت معه كأخت، لا لا، بل كشريكة في السكن لا غير، وولديه .. آه من ولديه، أحدهما تزوج من قريبة أمه وسافر إلى مقاطعة ثانية فلا نراه إلا مرة كل سنة أو سنتين، والثاني هجر البيت وسكن لوحده مقلدا الشعب الذي عاش بينهم.
أعرف يا ولدي أنك عرفت عمن أتكلم، نعم أن أتكلم عن نفسي، لا تستغرب يا ولدي، فما تراه من مظاهر توافق ما هي إلا غلاف .. غلاف لواقع كله تعاسة ومرارة وآلام .. أنا ضيعت يا ولدي حياتي حين فكرت بمن هي غير عربية وليست من بلدي، رغم أنني اخترتها مسلمة، فكيف بك وأنت تختار كافرة، تختلف عنك في العقيدة واللغة والعادات والبيئة والبلد وكذلك في المفاهيم والتصورات، يا بني عِ ما قلته لك .. وإياك أن تنظر إلى الزمن القريب، بل إلى البعيد، انظر إلى حياتك معها ان تزوجتها بعد عشر سنوات أو عشرين .. الرجل منا يا ولدي بعد سنوات من الزواج لا يعود كل ما يريده جميلة مثيرة .. بل يريد قلبا وروحا وعقلا .. وهذا لن تجده في بنات الغرب أبدا .. هن آلات يا بني، اسألني أنا عنهن، أنا عشت حياتهن وخبرتهن,,إياك أن تقع بما وقعت فيه، وتعلم من تجربتي واستفد، ولا تنس يا بني المثل القائل: زوان بلادك ولا قمح الغريب.
¥