البلغاء، ولكن في غير موضع البيان، وكل هذه الأمور: عدم العلم، أو: عدم الفصاحة، أو: الرغبة في التعمية، منتفية في حق النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهو أعلم الخلق بنص الشارع، عز وجل، دليلا ومدلولا، وأفصح الناس وأكملهم بيانا، وأنصح الناس لأمته، فلم يدع خيرا إلا أرشدهم إليه، ولم يدع شرا إلا حذرهم منه، فأبان الله، عز وجل، برسالته الخاتمة الدين الحق: أصلا وفرعا، بلسان عربي مبين، فليس بعد بيانه بيان.
ولفظ "المس" في هذا الحديث بخلاف لفظ "الملامسة" في قوله تعالى: (أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ)، لأن المس يكون من واحد، بينما الملامسة: مفاعلة، لا تكون إلا من اثنين، وهذه حقيقة الجماع فإنه لا يكون إلا من ذكر وأنثى، وبهذا رد الجمهور على الشافعية، رحمهم الله، في قولهم بنقض الوضوء بمس المرأة، ولو كانت من المحارم، لأنهم حملوا لفظ الملامسة في الآية على مجرد اللمس، والصحيح أنه: كناية عما يستقبح التصريح به من أمر الجماع.
*****
وأما حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، مرفوعا: (كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنْ الزِّنَا مُدْرِكٌ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ فَالْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ وَالْأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الِاسْتِمَاعُ وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلَامُ وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْخُطَا وَالْقَلْبُ يَهْوَى وَيَتَمَنَّى وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ وَيُكَذِّبُهُ).
فعنه يقول النووي رحمه الله:
"مَعْنَى الْحَدِيث أَنَّ اِبْن آدَم قُدِّرَ عَلَيْهِ نَصِيب مِنْ الزِّنَا، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُون زِنَاهُ حَقِيقِيًّا بِإِدْخَالِ الْفَرْج فِي الْفَرْج الْحَرَام، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُون زِنَاهُ مَجَازًا بِالنَّظَرِ الْحَرَام أَوْ الِاسْتِمَاع إِلَى الزِّنَا وَمَا يَتَعَلَّق بِتَحْصِيلِهِ، أَوْ بِالْمَسِّ بِالْيَدِ بِأَنْ يَمَسّ أَجْنَبِيَّة بِيَدِهِ، أَوْ يُقَبِّلهَا، أَوْ بِالْمَشْيِ بِالرِّجْلِ إِلَى الزِّنَا، أَوْ النَّظَر، أَوْ اللَّمْس، أَوْ الْحَدِيث الْحَرَام مَعَ أَجْنَبِيَّة، وَنَحْو ذَلِكَ، أَوْ بِالْفِكْرِ بِالْقَلْبِ. فَكُلّ هَذِهِ أَنْوَاع مِنْ الزِّنَا الْمَجَازِيّ، وَالْفَرْج يُصَدِّق ذَلِكَ كُلّه أَوْ يُكَذِّبهُ. مَعْنَاهُ أَنَّهُ قَدْ يُحَقِّق الزِّنَا بِالْفَرْجِ، وَقَدْ لَا يُحَقِّقهُ بِأَلَّا يُولِج الْفَرْج فِي الْفَرْج، وَإِنْ قَارَبَ ذَلِكَ. وَاَللَّه أَعْلَم". اهـ
وقرينة السياق ترجح أن المقصود بالبطش في هذا الحديث هو: اللمس الحرام، لأن الحديث ورد في معرض التحذير من الأسباب الموصلة إلى الزنا، من نظر وسمع وكلام ولمس، فالدلالة التركيبية للفظ: "البطش" في هذا السياق ترجح معنى: "اللمس"، وإن كانت الدلالة الإفرادية له بمعزل عن السياق ترجح معنى: "التناول بشدة، والأخذ الشديد، ..... إلخ"، واللفظ لا يفسر بمعزل عن سياقه، لأن السياق بمنزلة القرينة المرجحة عند حدوث التعارض.
وقد رواه الطحاوي، رحمه الله، في "مشكل الآثار"، من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، مرفوعا، بلفظ: «العينان تزنيان، واللسان يزني، واليدان تزنيان، والرجلان تزنيان، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه»، وعقب بقوله: " فكان فيما روينا من هذه الآثار إطلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الأعضاء الزنا إذ كانت من أسبابه وإذ كان لا يوصل إليه إلا بها". اهـ
فهي، كما ذكر في موضع تال: أسباب لما يستحق به ذلك الاسم، فإطلاق الزنا عليها من باب إطلاق المسبَب وإرادة السبب، وهو أمر جار في لغة العرب.
والعلم الحديث يشهد لهذا الخبر، لأن الخلايا العصبية المسئولة عن الإحساس تقوى في الأعضاء الظاهرة التي يباشر بها الإنسان أموره، كاليد واللسان والعين، بخلاف الأعضاء الباطنة، فإن حساسية الخلايا العصبية فيها تكون أقل، وهذا أمر يدركه كل ذي حس سليم، وإنما جازت مصافحة المحارم لانتفاء داعي الشهوة في حقهن، فلما أمنت الفتنة زالت علة الحكم، بخلاف الأجنبية فإن العلة في حقها باقية، ولا عبرة بقول من يقول بانتفاء العلة في حقه، لأنه إما: عديم الإحساس وهذه صورة نادرة و: النادر لا حكم له، وإما مغرض يبغي الفساد.
وقبل سنوات: تبنى رئيس جامعة الأزهر، أيام توليه منصب الإفتاء المنافحة عن هذا الأمر، فأفتى بالجواز، ولما استضافه أحد الصحفيين النصارى، عندنا في مصر، وهو من أكابر مجرمي قريتنا الذين يمكرون فيها، لما استضافه: أقام فعله مقام الدليل، كما يقول أحد الفضلاء عندنا في مصر، فجعل الدليل على جواز المصافحة أنه قد صافح: مخرجة البرنامج قبل التسجيل!!!!، ولم يعهد في الشريعة أن يكون فعل المفتي دليلا على فتواه، وإنما عهد الخلاف في دلالة فعل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم هل يفيد: الوجوب أو الندب أو الإباحة، والراجح كونه يفيد الندب إلا إذا كان بيانا لمجمل واجب كبيان صفة الصلاة والحج، على تفصيل ليس هذا موضعه، ووقع الخلاف، أيضا، في حجية فعل الصحابي، إذا اشتهر ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، أو لم يعلم له معارض، أو عارضه غيره ...... إلخ من المسائل التي تناولها الأصوليون بالبحث في مصنفاتهم، وأما فعل المفتي، لاسيما في زماننا، فلا يعلم أن أحدا من أهل العلم جعله حجة بنفسه، فليس معصوما ليقبل قوله وفعله مطلقا.
وقد سمعت أحد الفضلاء ممن خالط رئيس جامعة الأزهر الحالي، يثني عليه من جهة: سعة العلم، والرغبة في الرجوع بالأزهر إلى سالف عهده، بإقرار كتب التراث مرة أخرى بدلا من الكتب الحديثة التي قل نفعها، وإن كان على مذهب المتكلمين في الأصول، وخلافهم مع أهل السنة في مسائل الأسماء والصفات والإيمان معروف، وهو المذهب المعتمد في الدراسة الأكاديمية عندنا في مصر، فهو من أصحاب الذكاء الحاد والحافظة الواسعة، ولكن كالعادة: فتنة المنصب التي قل أن يسلم منها عالم، وإلى الله المشتكى.
والله أعلى وأعلم.
¥