أبو هدير: أنا الذي لم أُطعْ المُخرِج
ـ[حمدي كوكب]ــــــــ[29 - 04 - 2008, 12:39 ص]ـ
قال لي (بنفس النص): لا تصلي .. !!
تذكرت قول الله (عز وجل): (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى) [العلق/9 - 10]
عند هذا الموقف تغيرت فكرتي عن كل المحيطين والجالسين في هذا المكان الذي لم أكن أحلم في يوم من الأيام بدخوله، هذا الأستوديو الضخم المقام في الخلاء لتصوير المناظر الخارجية (خارج الأستوديو الحقيقي) المليء بكل أنواع الترف، تركته، ذهبت إلى المسجد، أديت صلاة الظهر، لم أعد إليه ثانية، وضاعت الوظيفة أو الحرفة التي أرسلني خالي إليها بعد عدة وسائط ومحاولات لأن أكون نجماً سينمائياً.
هكذا أخبرني (أبو هدير) وهو يحكي لي قصته: كيف كان في يوم من الأيام سيصبح نجماً سينمائياً؟
قال:
لم أكن موظفاً، ولا دخل لي من أي جهة من الجهات، وكنت أعمل يوماً أجيراً، وآخراً لا أجد العمل، أعاني البطالة، وظننت أن كل ما صرفته من مال في جميع مراحلي التعليمية ما هو إلا هباء منثوراً، ولا فائدة في شهادات جامعية، أو حتى ابتدائية، وتحركت من بلدتي إلى هناك حيث العاصمة منبع الفكر والثقافة والعمل والمصانع والزحام، حيث لا يعرفك أحد، وتجهل أنت بكل المحيطين بك، وسط هذا ضجيج العاصمة كنت كالتائه أبحث يوماً عن عمل، ويوماً أنام من التعب.
لم أكن أهتم مَن أنا؟ تعرفت على أصدقاء المكان الذي أُقيم به، أرشدني أحدهم إلى محل للبقالة بجوار أستوديو ... من أفخم استوديوهات التصوير السينمائي، ذهبت إلى صاحب المحل، قال: نحن بالفعل في حاجة إلى عامل.
أتقنت هذا العمل السهل حيث أن عملاء المحل من الذوات ومن أرقى فئات المجتمع، تركت مكان إقامتي القديم، وأقمت في شقة خاصة بعمال محل البقالة، فقد جعل صاحب المحل شقة كاملة يقيم فيها أصحاب العمل في محله التجاري، خاصة ممن لا يمتلكون سكناً في العاصمة أو ممن هم يبعد سكنهم عن المحل كيلو مترات، لم يتقاضى الرجل عن إقامتنا في الشقة أجراً، فقد كانت الإقامة مجانية.
عندما علم خالي أنني أعمل بقالاً، أنكر هذه المهنة، وعلى الفور أخذ يتصل بأصحابه ومعارفه، حتى جاءني وأخبرني أنه سوف يجعلني نجماً من نجوم (هوليوود الشرق) نجماً يبزغ في سماء الفن، بالفعل تخيلت نفسي في أرقى درجات النجومية، وعشت أحلام الترف والرقي.
كان خالي قد بذل كل ما يستطيع من أجل أن أصبح نجماً سينمائياً، فقد كانت كل معارفه من الممثلين والممثلات، لأنه هو صاحب الصفحة الفنية في الجريدة اليومية، أخبرني خالي أن أهم شيء هو الالتزام والطاعة لرؤساء العمل، عندما رأني المُخرج لأول مرة، قال (كاذباً، أمام خالي): وجه جديد ستزداد نجوم السماء به نجماً.
ثم قال لي: عليك التدريب معنا لمدة تقارب الشهر، تحضر يومياً معنا تشاهد حتى تتعلم كيف تبدأ؟ ثم سألحقك بزميل يتبنى موهبتك. مع أنه لم تكن لدي موهبة.
استمر الحال معه كما قال، طوال هذه المدة لم أكن أُشاهد إلا أراجوزات تتحرك بيد المخرج في طاعة عمياء، يأكلون بأمره، ويشربون بأمره، ويتحركون بأمره، الكل رهن إشارة شخص واحد، قلت في قرارة نفسي: إن الإنسان من هؤلاء لو أطاع والديه طاعته للمخرج لدخل الجنة.
استمر الحال، شهراً وسط أناس يتكلمون بلغة عربية غير اللغة العربية التي نتكلم بها، ويضحكون ضحكات غير ضحكاتنا، ونساء غريبات الأمر لا يذهبن إلى بيوتهن أو بيوت آبائهن أو بيوت أزواجهن، إنما انغمسن في صالات التمثيل والاختلاط وغرقوا في مباهج الترف والنعيم، حتى أنني خفت على نفسي من ضياع لكنتي العربية السليمة وسط اللغة العربية التي اخترعوها والألفاظ التي بدلوها، والمفاهيم التي قلبوها. في وسط هذا الجو المفعم بكل أفانين الراحة والمال والمتعة والجمال، وجدت نفسي أصبحت شخصاً غير الذي كنت، فلم أعد أهتم بمواعيد الصلاة، كنت أصلي وقتاً في المسجد، وآخراً في البيت، وقتاً أصليه، وآخراً أتركه. وبالتدريج وبعد أن انغمست في مدارج وخطوات الفن نسيت اسمي الحقيقي، حيث غير المُخرج اسمي ليكون اسماً له بريق خاص، وسط هذه الأجواء وجدت طاعة للمخرج ما مثلها طاعة، كنت أعرف نفسي أنني ممن لا يجبرون على طاعة العباد، حتى لو لم أجد عملاً.
¥