وقال القاسمي رداً على الحديث الأول: ((أن الأداء كما سمع ليس مقصوداً على نقل اللفظ بل النقل بالمعنى من غير تغيير أداء كما سمعن فإنه أدى المعنى كما سمع لفظه وفهمه منه نظيره أن الشاهد والمترجم إذا أدى المعنى من غير زيادة ولا نقصان يقال: إنه أدى كما سمع وإن كان الأداء بلفظ آخر ولو سلم أن الأداء كما سمع مقصور على نقل اللفظ فلا دلالة في الحديث على عدم الجواز غايته أنه داء للناقل باللفظ لكونه أفضل ولا نزاع في الأفضلية)) ([7]).
القول الثاني: الجواز.
قد رخص في سوق الحديث بالمعنى، دون سياقه على اللفظ، جماعة من الصحابة منهم: علي بن أبي طالب وأنس بن مالك وأبو الدرداء وواثلة بن الأسقع وأبو هريرة رضي الله عنهم، ثم جماعة من التابعين منهم: الحسن البصري والشعبي وعمرو بن دينار وإبراهيم النخعي ومجاهد وعكرمة وغيرهم ([8]).
أدلتهم:
الدليل الأول: حديث عبد الله بن سليمان بن أكيمة الليثي قال: قلت: يا رسول الله إني أسمع منك الحديث لا أستطيع أن أوديه كما أسمعه منك يزيد حرفاً أو ينقص حرفاً، فقال: "إذا لم تحلوا حراماً ولم تحرموا حلال وأصبتم المعنى فلا بأس" ([9]).
وكذلك عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وغيره ([10]).
والجواب عن هذا الدليل: لم يصح شيء من الأحاديث المرفوعة.
قال ابن رجب: ((وروي فيه – أي في جواز الرواية بالمعنى – أحاديث مرفوعة، لا يصح شيء منها)) ([11]).
الدليل الثاني: أن الصحابة نقلوا قصة واحدة بألفاظ مختلفة مذكورة في مجلس واحد ولم ينكر بعضهم على بعض فيه ([12]).
الجواب عليه: قال القاضي عياض: ((ولا يحتج باختلاف الصحابة في نقل الحديث الواحد بألفاظ مختلفة فإنهم شاهدوا قرائن تلك الألفاظ وأسباب تلك الأحاديث وفهموا معانيها حقيقة فعبروا عنها بما اتفق لهم من العبارات أذ كانت محافظتهم على معانيها التي شاهدوها والألفاظ ترجمة عنها.
وأما من بعدهم فالمحافظة أولا على الألفاظ المبلغة إليهم التي منها تستخرج المعاني فما لم تضبط الألفاظ وتتحرى وتسومح في العبارات والتحدّث على المعنى انحل النظم واتسع الخرق.
وجواز ذلك للعالم المتبحر معناه عندي على طريق الاستشهاد والمذاكرة والحجة وتحريه في ذلك متى أمكنه أولى كما قال مالك وفى الأداء والرواية آكد)) ([13]).
الدليل الثالث: أنه يجوز شرح الشرع للعجم بلسانهم فإذا جاز إبدال العربية بالعجمية فبأن يجوز إبدالها بعربية أخرى أولى ومن أنصف علم أن التفاوت بين العربية وترجمتها بالعربية أقل مما بينها وبين العجمية ([14]).
الجواب عليه: وقد رد عليهم طاهر الجزائري حيث قال: ((ففيه أمران:
الأمر الأول: أن ذلك إنما أجيز للضرورة وهو شرح الشرع لمن لا يحسن العربية بلسانه الذي يحسنه لا سيما إن كان ممن دخل في الدين حديثا ولم يكن له إلمام بالعربية فإنه يعرف الدين أولا بلغته ثم يؤمر بأن يتعلم من العربية ما يعرف به ما يلزمه من أمر الدين رأسا من غير احتياج إلى ترجمة وذلك تقديما للأهم على المهم ... .
الأمر الثاني: أن استدلالهم بما ذكر غير ظاهر وذلك أنهم إن أرادوا أن الحديث حيث جاز إبدال ألفاظه بألفاظ أخرى من اللغة الأعجمية على طريق الترجمة يكون إبدال ألفاظه بألفاظ أخرى من اللغة العربية على طريق الرواية بالمعنى أولى بالجواز ورد عليهم القرآن فإنهم أجازوا إبدال ألفاظه بألفاظ أخرى من اللغة الأعجمية على طريق الترجمة ولم يجز أحد إبدال ألفاظه بألفاظ أخرى من اللغة العربية على طريق الرواية بالمعنى)) ([15]).
القول الثالث: إتباع اللفظ لمن ليس بفقيه.
قال ابن حبان: ((الثقة الحافظ إذا حدث من حفظه وليس بفقيه، لا يجوز عندي الاحتجاج بخبره، لان الحفاظ الذين رأيناهم أكثرهم كانوا يحفظون الطرق والأسانيد دون المتون، ولقد كنا نجالسهم برهة من دهرنا على المذاكرة، ولا أراهم يذكرون من متن الخبر إلا كلمة واحدة يشيرون إليها، وما رأيت على أديم الأرض من كان يحسن صناعة السنن، ويحفظ الصحاح بألفاظها، ويقوم بزيادة كل لفظة تزاد في الخبر ثقة، حتى كأن السنن كلها نصب عينيه إلا محمد بن إسحق بن خزيمة - رحمة الله عليه - فقط.
¥