أتذكر أن تقول لضنك عيش ألا موت يباع فاشتريه
فلما نظر فيها تذكره، وهزته أريحية الكرم للحنين إليه، ورعاية حق الصحبة فيه، وأمر له في عاجل الحال بسبعمائة درهم، ووقّع رقعته: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل، في كل سنبلة مائة حبة، والله يضاعف لمن يشاء) ثم دعا به، وخلع عليه، وقلّده عملاً يرتفق به، ويرتزق منه. (17)
ووقّع الصاحب في رقعة استحسنها: (أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون)
ووقّع في كتاب بعض مخالفيه: (فويل لهم مما كتبت أيديهم، وويل لهم مما يكسبون).
ووقّع في رقعة أبي محمد الخازن، وكان قد ذهب مغاضباً، ثم كتب إليه في معاودة حضرته: (ألم نربك فينا وليداً، ولبثت فينا من عمرك سنين، وفعلت فعلتك التي فعلت). (18)
روى الشيخ حسن اليماني عن أستاذه أبي شعيب الدكالي المدرس بالحرم المكي في عهد الشريف عون، أن جماعة من تلاميذ الشيخ أبي شعيب، لم يصرّحوا بأسمائهم، كتبوا إليه: (يا شعيب لا نفقه كثيراً مما تقول، وإنا لنراك فينا ضعيفاً، ولولا رهطك لرجمناك، وما أنت علينا بعزيز).
فلمّا تسلّم الرسالة، وهو يلقي درسه في صوت جهوري، وحماس ديني بالغ، كتب تحتها: (الذين كذّبوا شعيباً كانوا هم الخاسرون). (19)
وكتب جعفر بن عطية إلى عبد المؤمن أمير الموحدين قصيدة يستعطفه لما نكبه، فوقع عبد المؤمن على القصيدة: (الآن وقد عصيت من قبل وكنت من المفسدين). (20)
وطلب يعقوب المنصور يوماً من قاضيه أن يختار له رجلين لغرضين؛ من تعليم ولد وحفظ أمر، فعرّفه برجلين قال في أحدهما: وهو بحر في علمه، وقال في الآخر: وهو بر في دينه، ولمّا أحضرهما المنصور واختبرهما؛ قصّرا بين يديه، وأكذبا الدعوى، فوقّع على رقعة القاضي: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ظهر الفساد في البر والبحر). (21)
التوقيع حرفاً:
قال الثعالبي: سمعت أبا النصر محمد بن عبد الجبار القبي يقول: كتب بعض أصحاب الصاحب رقعة إليه في حاجة فوقّع فيها، فعرضها على أبي العباس الضبّي، فما زال يتصفحها حتى عثر بالتوقيع، وهو ألف واحدة.
وكان في الرقعة: (فإذا رأى مولانا أن ينعم بكذا فعل) فأثبت الصاحب أمام (فعل) ألفاً، يعني (افعل).
فجاء هذا النوع من التوقيع حرفاً واحداً.
ونظيره ما رواه الكلاعي في كتابه: (أحكام صنعة الكلام) قال: أخبرني بعض أصحابنا عن الفقيه الحافظ أبي الوليد بن رشد من أنه كان يختصر جوابه في فتواه، حتى ربما ورد في السؤال: أيجوز ذلك أم لا؟ فيكتب الجواب: لا. (22)
قال الثعالبي: وسمعت الوزير أبا الفضل الميكالي يقول: كتب بعض العمال إلى الصاحب في التماس شغل، وفي الرقعة: إن رأى مولانا أن يأمر بإشغالي ببعض أشغاله.
فوقع تحتها: (من كتب إشغالي لا يصلح لأشغالي). (23)
ومن حسن أجوبة الصاحب أنه كتب إليه بعضهم رقعة أغار فيها على رسائله، وسرق جملة من ألفاظه، فوقع فيها: (هذه بضاعتنا ردّت إلينا). (24)
في التوقيع دعابة وظرف وحكمة بالغة:
وعرض على أبي الحسن الشقيقي البلخي توقيع الصاحب إليه في رقعة: (من نظر لدينه نظرنا لدنياه، فإن آثرك العدل والتوحيد، بسطنا لك الفضل والتمهيد، وإن أقمت على الجبر ليس لكسرك من جبر). (25)
وقد وجد هذا اللون من الكلام الحسن عند الناس قبولاً فحفظوه، ورووه أبناءهم، وطربوا له كالشعر، والمثل السائر، والنكات الأدبيّة، والأحاجي، وخاصة إذا تضمن التوقيع دعابة وظرفاً وحكمة بالغة.
وقّع يزيد بن الوليد بن عبد الملك في رقعة إلى مروان بن محمد:
(أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيهما شئت).
ووقّع جعفر بن يحي في قصة رجل يستمنحه، وكان قد منحه مراراً:
(دع الضرع يدر لغيرك). (26)
وشكت امرأة إلى المأمون بن المنصور جندياً نزل دارها وآذاها فوقّّع على رقعتها: (يخرج هذا النازل، ولا يعوّض بشيء من المنازل). (27)
وشكا رجل إلى زياد عقوق ابنه فوقّع في ذلك: (ربما كان عقوق الولد من سوء تأديب الوالد). (28)
توقيعات مطبوعة بالثقافة الأدبية والدينية:
¥