وكان جعفر بن يحي البرمكي قد تفقه على القاضي أبي يوسف، فلأجل ذلك كانت توقيعاته على منهج الفقه، وحدث أن وقع جعفر بن يحي في كتاب رجل شكا إليه بعض عماله: (قد كثر شاكوك، وقل شاكروك، فإما اعتدلت، وإما اعتزلت). (12)
ووقع أبو الربيع سليمان، أمير ناحية سجلماسة إلى عامل كثرت الشكاوى منه: (قد كثرت فيك الأقوال، وإغضائي عنك رجاء أن تتيقظ فتنصلح الحال، وفي مبادرتي إلى ظهور الإنكار عليك تنبيه إلى شر الاختيار، وعدم الاختيار، فاحذر فإنك على شفا جرف هار). (13)
وكتب صاحب أرمينيا إلى المهدي يشكو إليه سوء طاعة رعاياه، فوقّع في الكتاب: (خذ العفو، وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين.)
ومن مشهور توقيعات جعفر بن يحي البليغة، توقيعه لمحبوس: (ولكل أجل كتاب).
حسن التوقيع:
امتاز كتّاب الدولة العباسيّة بحسن التوقيعات، وغزارة العلم، وسعة الاطّلاع، وحسن البلاغ، وكانت توقيعاتهم إذا وقّعت نسخت وتدورست.
وممن اشتهر بحسن التوقيعات الحسن بن سهل السرخسي، وزير المأمون العباسي، وأحد كبار القادة والولاة في عصره، لكن جعفر بن يحي تفوق بتوقيعاته القصيرة البليغة، التي كانت مثلاً يحتذى من قبل الكتاب. (14)
يحكى أن سهل بن هارون عمل كتاباً في مدح البخل، أهداه إلى الحسن بن سهل، فوقع على ظهره: (قد جعلنا ثوابك عليه ما أمرت به فيه).
ووقّع ذو الرئاستين الفضل بن سهل وزير المأمون في رقعة بدت فيها حكمته: (إن أسرع النار التهاباً أسرعها خموداً، فتأن في أمرك).
ووقّع عبد الملك بن مروان في كتاب جاءه من الحجاج يخبره فيه بسوء طاعة أهل العراق، وما يقاسي منهم، ويستأذنه في قتل أشرافهم: (إن من يمن السائس أن يتألف به المختلفون، ومن شؤمه أن يختلف به المتآلفون).
التوقيع بالشعر:
ويأتي التوقيع بيتاً أو أكثر، أو شطر بيت من الشعر رداً على أبيات اعتذار أو تذكير، فقد ذكر السيوطي في (بغية الوعاة) ترجمة لإبراهيم بن يحي اليزيدي، واتبعها بأبيات لليزيدي، يعتذر فيها إلى المأمون قال فيها:
أنا المذنب الخطّاء والعفو واسع ولو لم يكن ذنب لما عرف العفو
سكرت فأبدت مني الكأس بعض ما كرهت وما أن يستوي السكر والصحو
فرضي عنه، وعفا عنه، ووقع على ظهر أبياته:
إنما مجلس الندامى بساط للمودات بينهم وصفوه
فإذا ما انتهى إلى ما أرادوا من حديث ولذة رفعوه (15)
وكتب نصر بن سيار إلى مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، يحذّره من أمر أبي مسلم الخراساني:
أرى خلل الرماد وميض جمر ويوشك أن يكون له ضرام
فأجابه موقعاً: الحاضر يرى ما لا يرى الغائب، فاحسم الثؤلول.
فكتب نصر: الثؤلول قد امتدت أغصانه، وعظمت نكايته.
فوقّع مروان إليه: يداك أوكتا، وفوك نفخ.
وكتب قتيبة بن مسلم الباهلي إلى الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك يتهدده بالخلع، فوقّع سليمان في كتابه:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً أبشر بطول سلامة يا مربع
واشتهر في هذا الفن: الصاحب بن عباد، وأجاد فيه شعراً ونثراً، حتى ذاعت توقيعاته في العالم الإسلامي، واشتهرت رسائله لحسنها وإيجازها.
ذكر ياقوت الحموي في موسوعته القيّمة: (معجم البلدان) في معرض حديثه عن مدينة قم، توقيعاً لطيفاً من الشعر، حفظته الأجيال وروته، كتبه الصاحب بن عباد على رقعة وجهها إلى قاضي قم:
أيها القاضي بقم قد عزلناك فقم
فكان القاضي يقول إذا سئل عن سبب عزله: أنا معزول السجع من غير جرم ولا سبب. (16)
التوقيع آية من كتاب الله:
ويأتي أحياناً نثراً أو آية من القرآن الكريم رداً على أبيات من الشعر.
حدّثنا صاحب اليتيمة عن ضعف حال الوزير المهلبي قبل اتصاله بالسلطان، فقال:
فبينما هو ذات يوم في بعض أسفاره مع رفيق له من أصحاب الجراب والمحراب، إلا أنه من أهل الآداب، إذ لقي في سفره نصبا، واشتهى اللحم فلم يقدر على ثمنه فقال ارتجالاً:
ألا موت يباع فأشتريه فهذا العيش ما لا خير فيه
ألا موت لذيذ الطعم يأتي يخلّصني من العيش الكريه
فاشترى له رفيقه بدرهم واحد لحماً، فاسكن بها قرمه، وتحفظ الأبيات وتفارقا، وضرب الدهر ضرباته، حتى ترقت حالة المهلبي إلى أعظم درجة من الوزارة، وحصل الرفيق تحت كلكل من كلاكل الدهر، فقصد حضرته، وتوصّل إلى إيصال رقعة تتضمن أبياتها منها:
ألا قل للوزير فدته نفسي مقال مذكر ما قد نسيه
¥