فضلا عن ذلك كان القانون العشائري العام في جزيرة العرب لا يسمح لفرد - أي فرد - بالخروج عن التقاليد والأعراف العشائرية مهما كانت. فالفرد – لا وجود له في العشيرة اصلا – فمادام الفرد لا يستطيع العيش منفردا في الصحراء مهما كانت قوته – فيجب ان ينضم إلى كيان يحميه ويضمن وجوده وبقائه. هو كيان يطلب بالمقابل الطاعة المطلقة – بل الجبر] على تعبير د. محمد عابد الجابري [المطلق من الأفراد الذين لا يتحقق وجودهم الا بهذا الكيان العشائري .. وقد شهدت الجزيرة أفرادا خرجوا عن طاعة العشيرة لسبب او لاخر لكنهم بالمقابل خسروا مكانتهم الاجتماعية وبالتالي أدوارا أرادوا ان يلعبوها: مثل الصعاليك او الشعراء المتمردين الذن انتهوا إلى ان يكونوا (في كل واد يهيمون) ..
واكثر من ذلك لم يكن العرب أهل كتاب وتراث ديني نبوي يجعلهم مؤهلين لقبول فكرة النبوة والرسالة بصورة عامة كما عند اليهود او غيرهم – فالعرب لم تعرف في تاريخها القريب للدعوة أنبياء ممكن ان يمهدوا الطريق لمحمد ورسالته النبوية .. رغم ان جذورا للدعوة الإبراهيمية التوحيدية كانت ولا بد لها بقية باقية بشكل او بأخر ..
كل ذلك كان أمام محمد والوحي يتنزل عليه. ان وجود أربعة أشخاص معه – واحد منهم صبي صغير والأخر شيخ كبير والثالث امرأة – لم يغير حقيقة انه وحده بطريقة او بأخرى. أمام المسؤولية الكبيرة الملقاة عليه كان يمكن ان يتردد عليه ذلك السؤال الذي ساور يونس قبله – وساور ربما كل الأنبياء والدعاة عبر العصور – ماذا بوسع رجل واحد ان يفعل؟.
أمام قريش: ذلك التحالف العشائري المعقد القوي الممتزج بالمصالح الاقتصادية التجارية التي تشكل (كل) ما تستقتل قريش في الدفاع عنه – أمام ذلك كان يمكن ان يطرح السؤال: ماذا بوسع رجل واحد ان يفعل؟ ..
وأمام الكعبة – وفيها 360 صنما يمثل كل منها رمزا عشائريا واقتصاديا يمتد بفروعه من شمال الجزيرة إلى جنوبها وبجذورها إلى عمق تاريخي بعيد وتمثل بمجموعها ارثا وثنيا ضخما هائل الحجم. وأمام تلك الأوثان كان يمكن لأشارة الاستفهام ان تبرز: ماذا بوسع رجل واحد ان يفعل؟ ..
وأمام أعراف وتقاليد أهل مكة الظالمة: الربا الفاحش الذي ينتهي بان يتملك الدائن المدين (حرفيا) – والوأد الظالم للبنات – وتلك البيوع الظالمة العشوائية التي انخرط فيها أهل مكة .. وقف محمد ليتأمل: ماذا بوسع رجل واحد…؟.
ان محمدا – المكي العريق – كان اعرف من غيره بصعوبة مهمته – بل وباستحالتها لو نظرنا كما نظر الكثيرون وقتها – لذلك كان يمكن ان تساوره تلك التساؤلات – ويتمنى لو ان تلك المسؤولية لم تلق على كتفيه هو ..
بل انه – على فرضية انه في تلك المرحلة المبكرة جدا كان يعرف ان رسالته ستكون موجهة للعالم اجمع لا للعرب بالخصوص – فانه ولابد كان سيمتلئ رعبا من تلك المسؤولية: الروم؟ وفارس؟ هو الذي لا يزال وحيدا ولا يعرف كيف يمكن له ان يهزم ويغير قريشا – فإذا بمسئوليته تتعدى ذلك إلى الروم وفارس والعالم اجمع من بعدهما؟ ..
.. كان ذلك قولا ثقيلا فعلا. ولابد انه كبشر – كان يمكن لليأس ان يتملكه من قدرته على تغيير العالم: شخص أمي رغم كونه كريم النسب، في الأربعين دونما عقب من أولاد ذكور، فقير تقريبا الا من ما تملكه زوجته – وكانت تلك مؤهلات اقل من عادية في مجتمع مثل مجتمع مكة – فإذا بصاحب تلك المؤهلات الأقل من العادية يجد نفسه أمام مهمة ضخمة: التغيير. لا مجتمعه فحسب – على صعوبة تلك المهمة وحدها بل العالم اجمع وكان ذلك كثيرا جدا ذلك ان محمدا كان قبل كل شئ وبعد كل شئ أنسانا – مثلما كان يونس، إنسان يمكن لليأس ان يغزوه – يشله، يوحي له بالفرار من المسؤولية كما فعل يونس .. كان يمكن لكل ذلك ان يحدث ..
ولكن: نزل الوحي: (فاصبر لحكم ربك. ولا تكن كصاحب الحوت)
منقول من كتاب البوصلة القرآنية للدكتور احمد خيري العمري الصادر عن دار الفكر دمشق
الربط:
http://www.tafsir.org/vb/showthread.php?t=4755&page=1
فهل أخطأت؟
جزاكم الله خيرا.
ـ[محمد احمد السلامي]ــــــــ[04 - 03 - 06, 07:51 م]ـ
سؤالك يدل على ضمير حي.و الامر ليس تحاملا او عدمه, من حقك طبعا ان تعترض على ما تراه يخالف رأيك، و لعل اذا احد الاخوة اذا استل الفقرات المؤشرة لوجدها مستفزة قليلا، لكن قرائتها ضمن سياقها سيجعلها رائعة و مؤثرة.
اشكرك على الرابط اخي فقد استمتعت بما قرأت.