وكان من الطبيعي أن يعترف المشركون بأنهم لم يطلعوا على الغيب، ولا وجدوا ذلك في كتاب من كتب الأنبياء، ولا أخذوه من أهل العلم، فقالوا: (بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا) و (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون). وبهذا الجواب تبين عجزهم وجهلهم معاً، فقيل لهم: إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون، فاسمعوا منه – سبحانه وتعالى – ما يقوله ويخبر به عن حقيقة شركائكم هؤلاء، يقول تعالى: (إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم) أي إنهم لا يقدرون على شيء مما يختص بالله – سبحانه وتعالى – كما أنكم لا تقدرون عليه، فأنتم وهم سواء في العجز وعدم القدرة، ولذلك تحداهم الله بقوله: (فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين). وقال تعالى: (والذين تدعون من دون الله ما يملكون من قطمير) أي بقدر ما يكون من القشرة الرقيقة فوق النواة (إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير) وقال تعالى: (والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون، أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون) وقال تعالى: (أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون، ولا يستطعون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون) وقال: (واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ولا يملكون موتاً ولا حياةً ولا نشوراً).
ثم رتب على عجز هؤلاء الآلهة، وعدم قدرتهم على ما كانوا يزعمون، أن دعاءهم والرجاء منهم لغو وباطل لا فائدة فيه إطلاقاً، وذكر لذلك بعض المثلة الرائعة، وذلك مثلاً قال تعالى: (والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال).
ثم دعى المشركون إلى قليل التفكير، وحيث إنهم كانوا يعترفون بأن الله تعالى هو خالق كل شيء، وان آلهتهم لم يخلقوا شيئاً، بل هم انفسهم مخلوقون لله، فقيل لهم: كيف سويتم بين الله الخالق القادر وبين هؤلاء المخلوقين العجزة؟ كيف سويتم بينهما في العبادة والدعاء؟ فإنكم تعبدون الله وتعبدون هؤلاء، وتدعون الله وتدعون هؤلاء: (أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون).
فلما وجه إليهم هذا السؤال بهتوا، وذهبت عنهم حجتهم، فسكتوا وندموا ثم تشبثوا بأمر باطل، قالوا: إن آباءنا كانوا من أعقل البشر، معروفين بذلك فيما بين الناس، قد اعترف بفضل عقولهم الداني والقاصي، وهم كلهم كانوا على هذا الدين، فكيف يمكن أن يكون هذا الدين ضلالاً وباطلاً؟ ولا سيما وآباء النبي صلى الله عليه وسلم وآباء المسلمين أيضاً كانوا على هذا الدين.
فرد عليهم بأنهم ما كانوا مهتدين، ولم يعرفوا سبيل الحق، ولا سلكوه، ويستلزم هذا أنهم كانوا ضالين، لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون، وقد قيل لهم ذلك أحياناً بالإشارة والكناية، وأحياناً بالصراحة الكاملة، مثل قوله تعالى: (إنهم ألفوا آباءهم ضالين فهم على آثارهم يهرعون). هذه من جهة ومن جهة أخرى أخذ المشركون يخوفون النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين من آلهتهم، يقولون: إنكم أسأتم الأدب إلى آلهتنا ببيان عجزهم، فهم سوف يغضبون عليكم، فتهلككم أو تخبطكم لأجل ذلك، وهذا كما كان الأولون يقولون لرسلهم: (إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء).
ورد على ذلك بتذكير المشركين وإلزامهم بما كانوا يشاهدونه ليلاً ونهاراً، وهي أن هذه الآلهة لا تستطيع أن تتحرك من أماكنها، وتتقدم أو تتأخر شيئاً، أو تدفع عن نفسها شراً، فكيف تستطيع أن تضر المسلمين وتهلكمهم؟ (ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون).
وضرب لهم بمثل هذه المناسبة بعض المثال الصريحة، مثل قوله تعالى: (يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب) ومثل قوله تعالى: (مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون) وقد بين بعض المسلمين عجزهم هذا بقوله:
أرب يبول الثعلبان برأسه لقد ذل من بالت عليه الثعالب
فلما وصلت النوبة إلى مثل هذه الصراحة هاج المشركون وماجوا، وسبوا المسلمين حتى سبوا ربهم الله سبحانه وتعالى فأما المسلمون فقد نهاهم الله سبحانه وتعالى عن معاودة ما يسبب ذلك وقال: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم).
وأما المشركون فقد قرروا إحباط الدعوة، والصد عن سبيل الله بالضغط والقوة والعنف، فقام كل كبير ورئيس بتعذيب من آمن من قبيلته، وذهب جمع منهم إلى أبي طالب ليكف هو رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدعوة إلى الله.
¥