لقد عقدت محبتها بقلبي ... كما عقد الحليب بخنبشار
وفيه: الخنبشار، بدل الخنفشار!!
نفخ الطيب من غصن الأندلس الرطيب 3/ 75 - 84.
ـ[عبد القادر مطهر]ــــــــ[06 - 02 - 10, 01:12 ص]ـ
قال مصطفى صادق الرافعي رحمه الله تعالى:
وأول من رمي بافتعال اللغة، وأنه يتعمد الصنعة فيها، محمد بن المستنير المعروف بقطرب، المتوفى سنة 206، وكان يرى رأي المعتزلة النظامية، فأخذ عن النظام مذهبه: ولذا طرحوا لغته ولم يوثقوه في الرواية؛
قال يعقوب بن السكيت: كتبت عنه قمطراً (أي ملء صندوق)، ثم تبينت أنه يكذب في اللغة، فلم اذكر عنه شيئًا.
واتهموا بالصنعة وتوليد الألفاظ، ابن دريدٍ صاحب "الجمهرة" المتوفى سنة 321، لأنه كان مدمنًا للخمر لا يكاد يفتر عن ذلك.
قال الأزهري اللغوي: وقد سألت عنه إبراهيم بن عرفة (يعني نفطويه) فلم يعبأ به، ولم يوثقه في روايته.
وكذلك اتهموا أبا عمرو الزاهد، المعروف بغلام ثعلب، المتوفى سنة 345 وكان واسع الحفظ جدًا، حتى قيل إنه أملى من حفظه، ثلاثين ألف ورقة في اللغة، وتلك لعمر الله مظنةٌ.
وكان بعض أهل الأدب يطعنون عليه، ويضربون به الأمثال لوضعه وتلبيسه؛ فيقولون:
لو طار طائرٌ في الجو قال: حدثنا ثعلبٌ عن ابن الأعرابي؛ ويذكر في معنى ذلك شيئًا!
ولكن أبا بكر بن الخطيب جعل مردّ التهمة إلى سعة حفظه، ثم اثبت هذا الحفظ فنفى التهمة، وقال:
رأيت جميع شيوخنا يوثقونه ويصدقونه، وكان يسأل عن الشيء الذي يقدر السائل أنه وضعه، فيجيب عنه، ثم يسأل عنه بعد سنةٍ، فيجيب بذلك الجواب.
ويُروى أن جماعةً من أهل بغداد اجتازوا على قنطرة الصراة، وتذاكروا كذبه، فقال بعضهم: أنا أصحف له القنطرة وأسأله عنها، فإنه يجيب بشيءٍ آخر؛ فلما صرنا بين يديه، قال له:
أيها الشيخ، ما القنطرة عند العرب؟
فذكر شيئاً قد أنسيته، فتضاحكنا وأتممنا المجلس؛ فلما كان بعد شهر ذكرنا الحديث، فوضعنا رجلاً غير ذلك فسأله، فقال: ما القنطرة؟ قال:
أليس قد سألت عن هذه المسألة منذ كذا وكذا، فقلت هي كذا؟ فما درينا من أي الأضمين نعجب من ذكائه؟ إن كان علمًا، فهو اتساعٌ طريف، وإن كان كذبًا في الحال فحفظه، فلما سئل عنه ذكر الوقت والمسألة، فأجاب بذلك الجواب فهو أطرف.
وكان معز الدولة قد قلد شرطة بغداد، غلامًا تركيًا مملوكًا يعرف بخواجا، فبلغ أبا عمرو هذا؛ وكان يملي كتاب (الياقوتة)؛ فلما جازه قال:
اكتبوا (ياقوتة خواجا)، الخواج في أصل اللغة الجوع؛ ثم فرّع على هذا بابًا بابًا وأملاه؛ فاستعظم الناس كذبه وتتبعوه. وله مثل ذلك أشياء أضربنا عنها؛ فإنّ بين العلم المستطيل والحفظ المتسع، موضعًا لبسط اللسان، إذا أراد قائلٌ أن يقول.
وأشهر من عرف بافتعال اللغة في الإسلام قاطبة، أبو العلاء صاعد بن الحسن اللغوي البغدادي، الذي ورد الأندلس في حدود سنة 380 على المنصور ابن أبي عامر؛ وكان يأخذ في طريق أبي عمرو ألمومأ إليه؛ لأنه نشأ والألسنة لا تزال تحكي عنه؛ ولذا نظروه في الأندلس في سرعة الجواب، وقوة الاستحضار بأبي عمرو هذا في العراق؛ وادّعى في الأندلس علم الغريب؛ وتنفق به عند المنصور بن أبي عامر، وعرض ما شاء من دعواه في الرواية والسماع من أئمة الرواة بالعراق، لضعف ذلك في الأندلسيين.
قالوا: ودخل مرةٌ على المنصور، وفي يده كتاب ورد عليه من عاملٍ له في بعض البلاد، اسمه ميدمان بن يزيد يذكر فيه (القلب والتزبيل)، وهي أسماء عندهم لمعاناة الأرض قبل الزرع، فقال له المنصور: أبا العلاء! قال: لبيك مولانا! قال: هل رأيت فيما وقع إليك من الكتب، كتاب (القوالب والزوالب) لميدمان بن يزيد؟ قال: إي والله يا مولانا، رأيته ببغداد في نسخةٍ لأبي بكر بن دريد، بخط كأكرع النمل، في جوانبها علامات الوضاع؛ هكذا هكذا! فقال له: أما تستحي أبا العلاء؟ هذا كتاب عاملي ببلد كذا الخ، وإنما صنعت لك هذه الترجمة، مولدةٌ من هذه الألفاظ التي في هذا الكتاب، ونسبته إلى عاملي لأختبرك! فجعل يحلف له أنه ما كذب، وأنه أمرٌ وافق. وله من هذا كثير.
وقال ابن بسام: إنّ المنصور أراه كتاب "النوادر" لأبي علي القالي، فقال:
إن أراد المنصور أمليت على كتاب دولته كتابًا أرفع منه وأجل، لا أورد فيه خبرًا مما أورده أبو علي! فأذن له المنصور في ذلك، وجلس بجامع مدينة الزاهرة على كتابه المترجم (بالفصوص)، فلما أكمله تتبعه أدباء الوقت، فلم تمر فيه كلمةٌ صحيحةٌ عندهم، ولا خبرٌ ثبت لديهم؛ وسألوا المنصور في تجليد كراريس بياض تزال جدتها حتى توهم القدم، ففعل ذلك وترجم عليه: "كتاب النكت، تأليف أبي الغوث الصنعاني" فترامى عليه صاعدٌ حين رآه، وجعل يقبله، وقال: إي والله، قرأته بالبلد الفلاني على الشيخ أبي فلان؛ فأخذه المنصور من يده خوفًا أن يفتحه، وقال له: إن كنت قد قرأته كما تزعم، فعلامَ يحتوي؟ فقال: وأبيك لقد بعد عهدي به، ولا أحفظ الآن منه شيئاً؛ ولكنه يحتوي على لغةٍ منثورةٍ لا يشوبها شعرٌ ولا خبر؛ فقال المنصور: أبعد الله مثلك؛ فما رأيت أكذب منك!
وأمر بإخراجه وأن يقذف كتاب "الفصوص" في النهر.
وكان أبو صاعدٍ هذا قوي البديهة في الشعر، يضع لسانه منه حيث يريد، وهو صاحب البيت المشهور (بيت الخنفشار)، الذي جرى في المتأخرين، مثلا مضروبًا في الكذب والوضع لما لا أصل له، وذلك أن المنصور قال له يومًا:
ما الخنبشار؟ فقال: حشيشةٌ يعقد بها اللبن ببادية الأعراب، وفي ذلك يقول شاعرهم: [الوافر]
لقد عقدتْ محبتها بقلبي ... كما عقدَ الحليبَ الخنبشارُ
وتوفي صاعد سنة 417. اهـ.
تاريخ الأدب العربي 113 - 114.
¥