تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

هذه كلمات مضيئة، لكن الوصول إلى إدراك كنهها لا بد له من مقدمات، فلنتكلم إذن عن هذا الإحساس الذي نعرفه من أنفسنا، ألا وهو التعلق بالسبب، بحيث يصبح القلب على وجل دائم وقلق مستمر من أن يحدث لهذا السبب شيء، فما إن يحس بأن هذا السبب سينقطع، حتى يخاف ويرتعد ويرتجف، ويهاب من أن ينقطع الرزق مع انقطاع السبب، بل قد يتجاوز الأمر إلى أن هذا القلب يذل ويخضع لصاحب السبب، وقد يتجاوزه إلى أن يقع صاحبه في معصية الله من كذب أو غش أو حلف أو شهادة زور، حتى يبقى محافظا على ذلك السبب؛ وهذا هو الخيط الدقيق الذي يفصل بين المتوكل على الله والمتعلق بالأسباب، فإن وجدت من قلبك اضطرابا، ومن نفسك قلقا، وضاقت عليك الدنيا، وخفت الفقر، فاعلم أن توكلك على الله فيه ضعف شديد.

المتوكل يأخذ بالسبب، يغدو ويروح، يسعى ويجد، متمثلاً قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان) [3]، لكنه راض بكل ما يأتيه، ضامن أن الله هو المتكفل برزقه، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.

إن قلب المتوكل متعلق بالله ناظر إليه معتمد عليه، يعرف أن الذي ساق هذا السبب وأعانه عليه، إنما ساقه له لرزق أراد أن يصيره إليه، ولن يعجز مسبب السبب الأول في أن يمده بأسباب أخرى، ويفتح عليه من الأبواب ما لم يكن يحتسب، مستحضرا في نفسه قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها) [4]، يعلم أن سعيه ليس إلا سببا هو في حد ذاته مفتقر إلى أن يسوقه الله إليه ويمكّنه منه، فلا حيلة له إلى السبب إلا بتوفيق المسبب، قد تيقن أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوه بشيء لن ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله، قد اخترق بنظره السبب إلى مسببه، فلا يلتفت إلى السبب البتة، بل يعلق نظر قلبه إلى المسبب، يرى رحمته وفضله، وغناه وقربه، فهو لاهٍ به عن غيره، منشغل به عن سواه، فأنّى يصيبه الهم أو القلق!

قال تعالى: (هو الذي يريكم ءاياته وينزل لكم من السماء رزقا، وما يتذكر إلا من ينيب، فادعوا الله مخلصين له الدين) غافر13 - 14، إن الذي يتأمل ءايات الله وعجائبه في صنعه، يجد من أعجبها ما أومأت إليه الآية، وهو ءاياته في سوق الرزق إلى عباده. ولو ذهبنا نذكر قصصا تبرز قدرة الله على سوق الرزق لعباده في أي ظرف وأي مكان وأي زمان، لطال بنا المقام…

إن حقيقة التوكل، أن لا تتعلق بالسبب خوفا ورجاءً، وأن لا تقف عنده بنظرك وهمك، بل تتجاوزه إلى مسببه.

ولنضرب لذلك مثالا:

جاء رجل إلى ملك عظيم، فسأله حاجته، وألح في المسألة، حتى رضي الملك، وقضى حاجته، فأمر عبدا من عبيده أن ينصرف مع هذا الرجل لينفذ الأمر ويعطي الرجل أعطيته، فبادر العبد وخرج مع الرجل لتنفيذ أمر الملك.

في الطريق أخذ الرجل يتملق للعبد ويرجوه ويخشاه ويذل له، بل تمادى به الحال إلى أن نسي الملك الذي أمر العبد، وأخذ يعصاه من أجل إرضاء هذا العبد المأمور.

فالعبد في المثال هو السبب الذي ساقه الله إليك، فمن العجيب أن تراقب العبد وتنسى الملك.

أحيانا أرجع إلى البيت وقد أحضرت للأبناء قطعة من الحلوى، فأدخل وهم فرحون مستبشرون لاهون عما أحضرت لهم، فما أن أخرج يدي من جيبي وأريهم ما أحضرت لهم، حتى يعلوَ صراخهم فرحا بالحلوى وخوفا من أن يحرموها واستعجالا أن ينالوها، ولا ترتاح نفوسهم إلا بعد أن يضع أحدهم قطعة الحلوى في فمه، وهذه حال كثير من الناس، يأتيه الله بالسبب من حيث لا يحتسب، فما يكاد يلوح له السبب، حتى ينشغل قلبه به، ويشد عزمه إليه، ويخاف من فقده، ويبقى بين ترقب وخوف وقلق ورجاء…

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير