لقد كلف الله عباده بتكاليف كثيرة، تستلزم الصبر والشكر ومجاهدة النفس على فعل المأمور وترك المحظور، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، إلى غير ذلك من التكاليف التي هي من مسمّاها فيها كلفة ومشقة، لذلك أراحهم من كلفة الرزق وهمه، وجعله مضمونا مكفولا، فقال تعالى: (وفي السماء رزقكم وما توعدون) ولم يكتف بالإخبار بل أضاف إليه التأكيد والقسم وضرب المثل، فقال: (فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون) الذاريات 22 - 23 وقد حكى أهل التفسير في هذه الآية أن أعرابيا لما سمعها صاح وقال: "يا سبحان الله، من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف، لم يصدقوه بقوله حتى ألجأوه إلى اليمين" [5].
ويقول عز وجل في آية أخرى: (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك) طه132، ولعلك تدرك الرابط بين أمر الأهل بالصلاة، وبين قوله: (لا نسألك رزقا نحن نرزقك) فكأنه صرف همتك إلى الأمر الأول، وأراحك من الأمر الثاني، فاهتم بما أمرك، والهَ بقلبك عما تكفل هو به؛ قال أحد العلماء: "انشغالك بما ضمن لك عما طلب منك دليل على انطماس البصيرة منك".
إذا تحقق الإنسان بهذا الأمر، حقق لنفسه مكسبين عظيمين:
أولهما: تحقيق عبادة التوكل وهي من أعظم العبادات.
ثانيهما: قرت عينه ورضيت نفسه واستقرّت حاله، وغدا سعيدا لا يحمل هم الرزق وغمه، وما أحكم الحسن البصري رحمه الله حين عرّف التوكل بثمرته الكبرى فقال: "هو الرضا عن الله".
إن هذا الرضا هو حقيقة السعادة التي يعيشها المسلم، في مقابل القلق النفسي الذي يعانيه غير المؤمن، حين يفكر في المستقبل، أو حين يطرأ عليه في حياته طارئ.
قيل لحاتم الأصم: على ما بنيت أمرك هذا من التوكل؟ قال: على أربع خلال: «علمت أن رزقي لا يأكله غيري، فلست اهتم له، وعلمت أن عملي لا يعمله غيري، فأنا مشغول به، وعلمت أن الموت يأتيني بغتة، فأنا أبادره، وعلمت أني بعين الله في كل حال، فأنا مستحي منه» [6]
وهذا الرضا هو من الأمن الذي وُعد به المؤمنون في قوله تعالى: (الذين ءامنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولائك لهم الأمن وهم مهتدون) الأنعام82.
يتحدث الناس اليوم عن الأمن المادي، وأن على الإنسان أن يؤمن رزقه حتى ترتاح نفسه، ويحصل له الأمن، ووالله ما من طريق إلى هذا الأمن إلا إذا تأكد أن الذي خلقه هو الذي تكفل برزقه، وهو الذي قدّر له رزق اليوم ورزق الغد، وإلا إذا تشبع قلبه بالتوكل على الله، فهذا هو الذي يتحصل له الأمن والراحة والسعادة الدائمة؛ أما غير المتوكل فلا أمن له ولا قرار، وقد رأينا الرؤساء والملوك والأغنياء، كلهم يخاف الفقر، ويخشى حوادث الدهر وتقلب الأيام، فمهما كثرت ثرواتهم، وعظمت مكانتهم، فهم في قلق دائم، وترقب مستمر، وليس لهم من الأمن شيء.
إن الأمن كل الأمن في قوله صلى الله عليه وسلم: (من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه و جمع له شمله و أتته الدنيا و هي راغمة , ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه و فرق عليه شمله و لم يأته من الدنيا إلا ما قدر له) [7] لذا كان صلى الله عليه وآله وسلم يستعيذ من أن تكون الدنيا أكبر همه، ومبلغ علمه.
إن النفس تخاف الفقر أشد الخوف، لكنها وبدل أن ترتبط بالمسبب الحقيقي، ترتبط بالسبب المادي الظاهر أمامها، وهذا من أقوى الأسلحة التي يستخدمها إبليس ليضرب عقيدة التوكل في قلوب الضعفاء: (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء) بينما يعد الله أولياءه مغفرة وغنى (والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم) البقرة 268.
وقد لجأت النصوص الشرعية في محاولة كسر هذا الخوف من القلوب، إلى أساليب كثيرة كي يحصل اليقين بأن الرزق حاصل للإنسان كما قدره الله، ومن أبلغ هذه الأساليب: الربط بين الموت والرزق، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الرزق ليطلب العبد كما يطلبه أجله) [8]، وقوله: (أيها الناس اتقوا الله وأجملوا في الطلب، فإن نفسا لن تموت حتى تستوفي رزقها وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حل ودعوا ما حرم) [9]، إن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "خذوا ما حل ودعوا ما حرم" هو مقياس يُمكن أن يعرف به الإنسان درجة توكله، فمن طاوعته نفسه على الوقوع في الحرام لأجل الرزق، فهذا ليس من التوكل في شيء.
إن المتوكلين على الله أناس عقلاء، عرفوا أن الله هو المالك المطلق، والمتصرف الأوحد، وتيقنوا أن غيره عباد مأمورون، لا ينفعون ولا يضرون، فوقفوا عنده، وقصروا همهم عليه، وعلقوا قلوبهم به، فكفاهم الهم، وحررهم من قيود التعلق بمن سواه، فهم بعبوديتهم له أحرار، وبغناهم به أغنياء، وبتوكلهم عليه أقوياء: (ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا).الطلاق 3
[1] أخرجه الترمذي في باب التوكل على الله، وقال: هذا حديث حسن صحيح لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
[2] نقل هذه الآثار، البيهقي في شعب الإيمان.
[3] الحديث أخرجه مسلم في باب الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة.
[4] سنن ابن ماجه.
[5] الكشاف للزمخشري.
[6] البيهقي في شعب الإيمان.
[7] صحيح رواه الترمذي وغيره.
[8] صححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب.
[9] صححه الألباني في سنن ابن ماجه. [/ SIZE]