عليه ما له من المشهد العظيم، فوقعت تلك السّقطة العظيمة مغتفرة في جنب ماله من الحسنات ".
وعلى هذه القواعد جرى أولئك الأعلام رحمهم الله رحمة واسعة وجعلهم من ورثة دار السّلام، وإليك بعض الأمثلة:
فمن المعلوم المشهور أنّ ابن تيمية رحمه الله كان سيفا حادّا على أهل البدع، ولا نعلم أحدا كثُرت ردوده على أهل الكلام والفلاسفة مثله، ومن أحسن وأروع وأفضل الكتب المصنّفة في الردّ على الأشاعرة إنّما كان شيخ الإسلام، ومع ذلك انظر إلى إنصافه:
قال رحمه الله عنهم: " بل هم أهل السنّة والجماعة في البلاد الّتي يكون أهل البدع فيها هم المعتزلة والرّرافضة وغيرهم "
ولمّا أفرط أبو إسماعيل الأنصاريّ رحمه الله صاحب كتاب " ذمّ الكلام " في ذمّهم، دافع عنهم شيخ الإسلام وقال: " ويُبالغ في ذمّ الأشعريّة، مع أنّهم أقرب هذه الطّوائف إلى السنّة "
ويذكر رحمه الله أنّهم من المتكلّمين المنتسبين إلى السنّة
وقال: " وخطؤهم بعد الاجتهاد مغفور "
ومدح كتاب " كشف الأسرار وهتك الأستار " للباقلاّني، وبعض كتب الغزالي، وأثنى على علمائهم لدفاعهم عن السنّة، وبينّ أنّ حسناتهم نوعان: موافقة للسنّة، وردّ عل البدعة
- وقال شمس الدّين بحقّ الإمام الذّهبي:
" قال سلمة بن شبيب: قلت لأحمد بن حنبل: طلبت عفّان في منزله، قالوا: خرج، فخرجت أسأل عنه، فقيل: توجّه هكذا، فجعلت أمضي أسأل عنه حتّى انتهيت إلى مقبرة، وإذا هو جالس يقرأ على قبر بنت أخي ذي الرّياستين، فبزقت عليه، وقلت سوءةٌ لك! قال: يا هذا الخبزَ الخبزَ"، قلت: لا أشبع الله بطنك. قال: فقال لي أحمد: لا تذكرنّ هذا، فإنّه قد قام في المحنة مقاما محمودا عليه، ونحو هذا من الكلام
- وقال أيضا في ترجمة الإمام ابن خزيمة رحمه الله تعالى:
" وكتابه في " التّوحيد " مجلّد كبير، وقد تأوّل في ذلك حديث الصّورة، فليُعذر من تأوّل بعض الصّفات، وأمّا السّلف فما خاضوا في التّأويل، بل آمنوا وكفّوا، وفوّضوا علم ذلك إلى الله رسول، ولو أنّ كلّ من أخطأ في اجتهاده مع صحّة إيمانه، وتوخّيه لاتّباع الحقّ أهدرناه وبدّعناه، لقلّ من يسلم من الأئمّة معنا، رحم الله الجميع بمنّه وكرمه "
- وقال رحمه الله: " قال الحاكم: سمعت محمّد بن صالح بن هانئ يقول: سمعت ابن خزيمة يقول: من لم يُقِرّ بأنّ الله على عرشه قد استوى فوق سبع سماواته فهو كافر حلال الدّم! وكان ماله فيئا. قال الذّهبي معلّقا: وكلام ابن خزيمة هذا –وإن كان حقّا- فهو فجّ لا تحتمله نفوس كثيرٍ من متأخّرين العلماء ". [
- وقال أيضا في ترجمة الإمام ابن حبّان رحمه الله تعالى بعد ما ذكر إنكار النّاس عليه قوله: " النبوّة العلم والعمل "، وكيف حكموا عليه بالزّندقة، وهُجِرَ، وكتِب فيه إلى الخليفة فكتب بقتله:
" هذه حكاية غريبة، وابن حبّان من كبار الأئمّة، ولسنا ندّعي فيه العصمة، لكن هذه الكلمة التي أطلقها قد يطلقها المسلم ويطلقها الزّنديق الفيلسوف، فإطلاق المسلم لها لا ينبغي، لكن يُعتذر عنه، فنقول لم يُرِد حصر المبتدأ في الخبر، ونظير ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم: «الحَجُّ عَرَفَةُ»، ومعلوم أنّ الحاجّ لا يصير بمجرّد الوقوف بعرفة حاجّا، بل بقي عليه فروض وواجبات، وإنّما ذكر مهمّ الحجّ، وكذا هذا، ذكر مهمّ النبوّة، إذ من أكمل صفات النبيّ كمال العلم والعمل، فلا يكون أحد نبيّا إلاّ بوجودهما .. أمّا الفيلسوف فيقول: النبوّة مكتسبة ينتجها العلم والعمل، فهذا كفر ولا يريده أبو حاتم أصلا، وحاشاه " اهـ. [
وقال في ترجمة محمّد بن نصر رحمه الله: " ولو أنّا كلّما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأً مغفورا له، قمنا عليه وبدّعناه وهجرناه لما سلِم معنا ابن نصر ولا ابن منده، ولا من هو أكبر منهما، والله هادي الخلق إلى الحقّ، وهو أرحم الأرحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة ".
- روى الخطيب رحمه الله في " الكفاية ": عن ابن المسيّب قال: " ليس من عالم ولا شريف ولا ذي فضل إلاّ وفيه عيب، ولكن من كان فضله أكثر من نقصه ذهب نقصه لفضله ".
¥