قال: فظننت أن محمد بن يحيى الذُّهْلِيُّ ناولنِي, فلقِيته فقلت له: الرُّقْعَةُ التِي ناولتنِي؟ فقال: ما رأيتك ما ناولتك رُقْعَةً, فعلِمتُ أنها عِظَةٌ لِي" (الآداب الشرعية 2/ 59).
فلا تجعلي همّك من العلم المباهاة, أو المماراة
ثانياً: تقوى الله جلّ وعلا في السرّ والعلن.
قال تعالى: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً} , وقال تعالى: {وَاتَّقُواْ اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
قال العلامة رشيد رضا رحمه الله: "تقوى الله في الأمور كلِّها تعطى صاحبها نوراً يفرِّق به بين دقائق الشبهات التي لا يعلمهن كثير من الناس, فهي تفيده علماً خاصاً لم يكن ليهتدي إليه لولاها، وهذا العلم هو غير العلم الذي يتوقف على التلقين كالشرع أصوله وفروعه، وهو ما لا تتحقق التقوى بدونه، لأنها عبارة عن العمل فعلاً وتركاً بعلم، فالعلم الذي هو أصل التقوى وسببها لا يكون إلاّ بالتعلم كما ورد في الحديث: «العلم بالتعلم» (رواه ابن أبي شيبة في مصنفه 5/ 248, وأحمد في "الزهد" ص: 163, والطبراني في الأوسط 3/ 118, وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة 1/ 670).
فمن نوّر الله قلبه بالإيمان قويت معرفته, واستنارت بنور اليقين, فاستقام قلبه, واطمأنت به نفسه, وتفجّرت ينابيع الحكمة من لسانه, فكان مسدّداً في قوله وفعله, ودعوته وإرشاده, على بصيرة ونور من الله تعالى.
ومن ذلك البعد عن المعاصي, فإنها حجب دون العلم والفهم, وتالله إنّ العبد ليستوعب العلم الجمّ بصلاحه, ويغلق عليه الفهم لمعاصيه.
قال الشاعر:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي * * * فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم نور * * * ونور الله لا يهدى لعاصي
ثالثاً: الصبر والتحمّل والاجتهاد في طلب العلم.
كثيراً ما يبدأ المرء بحماس وعزيمة متّقدة في طلب العلم, ولكنه يعتريه الفتور والملل والكسل في وسط الطريق, فيقطع عن الثمرة, ويحرم من إدراك الأمنية.
ولطرد هذا الداء, لا بد من استحضار سير العلماء, وإدمان النظر فيها, لمعرفة قدر ما كابدوه من عناء, ونصب في طلب العلم.
إذ أن العلم شاق عزيز, لا ينال براحة الأجسام.
وإليك أخي اللبيب طرفاً من سيرهم للتتّقد همتك, وتزداد رغبتك:
- ذكر الإمام المقريزيّ في ((المقفَّى الكبير)) العلامةَ ابنَ صدقة الحموي أنه كان كثيرَ الاشتغال بالعلم دائم التحصيل له. وذكر عن الحافظ المنذري أنه قال: ((دخلتُ عليه يومًا وهو في سَرَبٍ تحت الأرض، لأجل شدَّة الحر، وهو شتغل. فقلتُ له: في هذا المكان؟ وعلى هذه الحال؟!.
فقال: إذا لم أشتغل بالعلم، ماذا أصنع؟ ".
- ذكر ابن رجب الحنبلي في ((الذيل على طبقات الحنابلة)) في ترجمة ابنِ عقيل الحنبلي، عن ابنِ الجوزي أنه قال عنه: ((كان دائم التشاغُل بالعلم، حتى إني رأيتُ بخَطِّه: إني لا يحلّ لي أن أُضيع ساعةً من عمري، حتى إذا تعطَّل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مُطالعة، أعملتُ فِكري في حالة راحتى وأنا مُسْتَطرِحٌ، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره. وإني لأجد من حِرصي على العلم وأنا في عَشْر الثمانين أشدّ مما كنت أجده وأنا ابن عشرين سنة)) اهـ.
ونقلَ ابنُ رجب من ((الفنون)) لابن عقيل أنه قال عن نفسِه: ((أنا أقصر بغاية جهدي أوقات أكلي، حتى أختار سفَّ الكعك وتحسيه بالماء على الخبز، لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ، توفّرًا على مطالعةٍ، أو تسطير فائدة لم أدركها فيه)) اهـ.
- قال ابن الجوزي عن نفسِه في ((صيد الخاطر)):-أثناء حديثه عن المطالعة والاكثار منها-: ((وإني أُخبر عن حالي: ما أشبع من مطالعة الكتب، وإذا رأيت كتابًا لم أره، فكأني وقعتُ على كنز. ولقد نظرتُ في ثَبَتِ الكتب الموقوفة في المدرسة النِّظَامية، فإذا به يحتوي على نحو ستة آلاف مجلَّد، وفي ثبت كتب أبي حنيفة، وكتب الحُمَيدي، وكتب شيخنا عبد الوهاب بن ناصر، وكتب أبي محمد بن الخشَّاب -وكانت أحمالاً- وغير ذلك من كلِّ كتاب أقدر عليه.
ولو قلت: إني طالعتُ عشرين ألف مجلد كان أكثر، وأنا بعدُ في الطَّلب)) اهـ.
رابعاً: الحفظ ثم الحفظ ثم الحفظ والمذاكرة.
¥