تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

أما فخر البارودي فلم يتناوله لغرض تقليد الآخرين، بل لدواعٍ تتعلق بشخصيته الطموحة، فلو أنعمنا النظر في أية قصيدة من قصائده في الفخر لوجدنا فيها معاني الإباء والشمم، والاعتزاز بالنسب، والتغني بالشجاعة والإشادة بالمواقف الصعبة التي تمثل طموحاته وتجاربه الحياتية يقول شاعرنا مفتخراً:

أبى الدهر إلا أن يسود وضيعه ويملك أعناق المطالب وغدهُ

تداعت لدرك الثأر فينا ثعالة ونامت على طول الوتيرة أسدهُ

فحتامَ نسري في دياجير محنة يضيق بها عن صحبة السيف غمدهُ

إذا المرء لم يدفع يد الجور إن سطت عليه فلا يأسف إذا ضاع مجدهُ

ومن ذل خوف الموت كانت حياته اضر عليه من حمام يؤدّهُ

علام يعيش المرء في الدهر خاملاً؟ أيفرح في الدنيا بيوم يعدّهُ

يرى الضيم يغشاه فيلتذ وقعه كذي جرب يلتذ بالحك جلدهُ

عفا على الدنيا إذا المرء لم يعش بها بطلاً يحمي الحقيقة شدّهُ

من العار أن يرضى الفتى بمذلة وفي السيف ما يكفي لأمر يعدهُ (34)

أما ما قاله البارودي في الزهد فهو قليل ولم نلمس فيه ما يدل على التجديد وإنما كان مقلدا لسابقيه وتخلل هذا الشعر بعض المواعظ والحكم التي استمدها من خلال تعامله مع الناس وتبدو على زهدياته لمسات من التشاؤم المنبعث من المصائب التي تعرض لها في حياته يقول:

كل حي سيموت ليس في الدنيا ثبوتْ

حركات سوف تفنى ثم يتلوها خفوت

وكلام ليس يحلو بعده إلا السكوت

أيها السادر قل لي أين ذاك الجبروت؟

أين أملاك لهم في كل أفق ملكوت

زالت التيجان عنهمْ وخلت تلك التخوت (35)

ومن حكمه قوله:

ومن تكن العلياء همة نفسه فكل الذي يلقاه فيها محببُ (36)

ومن حكمه الأخرى قوله:

من صاحب العجز لم يظفر بما طلبا فاركب من العزم طرفا يسبق الشهبا

لا يدرك المجد إلا من إذا هتفت به الحمية هز الرمح وانتصبا

لا يقعد البطل الصنديد عن كرم من جاد بالنفس لم يبخل بما كسبا (37)

مما تقدم نخلص إلى القول: إن البارودي من أول المجدين في الشعر العربي الحديث، وهو تجديد يقوم على نقطتين: بعث الأسلوب القديم في الشعر بحيث تعود إليه جزالته ورصانته وتصوير الشاعر لنفسه وقومه وبيئته وعصره تصويرا مخلصا صادقا.

كما حاول البارودي التجديد في الأوزان فنظم قصيدة على وزن جديد هو مجزوء المتدارك، ولم يسبق للعرب أن نظموا فيه، و إنما ورد المتدارك عندهم كاملا أو مشطوراً.

واغلب الظن أن الظروف التي ساعدت على أن يكون البارودي رائدا للشعر العربي الحديث تتمثل في:

1_ حفظ واستظهر البارودي النماذج الرائعة من الشعر العربي القديم.

2_ الثقافة الواسعة التي تتوزع بين العربية والتركية والفارسية.

3_ الجنس التركي الذي ظهر طابعه في شعره الذي يقوم على الاعتداد بالنفس والفخر بالنسب والسعي نحو الطموح ومنه الطموح الأدبي ليعيد مجد آبائه وأجداده.

4_ البيئة المصرية وهي العنصر الأساس الذي أمده بمادة تجاربه وصوره الواقعية الناضجة.

وتأسيساً على ما تقدم تبين لنا أن البارودي يعد حامل لواء الشعر العربي الحديث، فقد خلصه من أساليبه الركيكة المبتذلة، وقيوده البديعية وأغراضه الضيقة التي كانت تقتصر على الزلفى والتملق، ونفخ فيه من روحه وروح قومه وعصره وبيئته ما بعث في شعرنا الحديث الحياة كما نفخ فيه روح العروبة، فإذا الحاضر يتصل بالماضي اتصالاً خصباً حيّاً وإذا الماضي ينبعث من جديد بعثا تبرز فيه الشخصية العربية وانبعثت في ظل شعره مدرسة البعث أو الإحياء أو النهضة ومن ابرز أعلامها: إسماعيل صبري، حافظ إبراهيم، احمد شوقي، وخليل مطران، بل استظلت بظله جميع المدارس التجديدية التي تلته في القرن العشرين.

الهوامش:

(1) للتفاصيل ينظر: ديوان البارودي، حققه محمد شفيق معروف، دار المعارف بمصر، 1972: المقدمة.

(2) ينظر: في الأدب الحديث، عمر الدسوقي، دار الفكر العربي، ط1: 168.

(3) البارودي رائد الشعر الحديث، د. شوقي ضيف، دار المعارف بمصر، 1964: 51.

(4) ينظر: نفسه: 53.

(5) الأدب العربي الحديث دراسة في شعره ونثره، د. سالم الحمداني و د. فائق مصطفى، دار الكتب للطباعة والنشر، جامعة الموصل، 1987: 53.

(6) الديوان: 4/ 124.

(7) في الأدب الحديث: 1/ 197.

(8) الديوان: 2/ 164.

(9) للتفاصيل ينظر: البارودي رائد الشعر الحديث: 1/ 203.

(10) الديوان: 3/ 177.

(11) نفسه: 1/ 144.

(12) نفسه: 1/ 214.

(13) للتفاصيل ينظر: في الأدب الحديث: 1/ 205.

(14) الديوان: 2/ 87.

(15) الأدب العربي المعاصر في مصر، د. شوقي ضيف، دار المعارف بمصر، 1961: 90.

(16) الديوان: 2/ 281.

(17) نفسه: 2/ 311.

(18) ينظر: الأدب العربي المعاصر في مصر: 91.

(19) الديوان: 2/ 57.

(20) نفسه: 1/ 59.

(21) نفسه: 1/ 122.

(22) نفسه: 2/ 119.

(23) في الأدب الحديث: 1/ 208.

(24) ينظر: الأدب العربي الحديث دراسة في شعره ونثره: 67.

(25) الديوان: 2/ 187.

(26) نفسه: 2/ 220.

(27) نفسه: 2/ 314.

(28) ينظر: قراءة ثانية في البارودي، عمر محمد الطالب، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، جامعة الموصل، 1981: 221.

(29) الديوان: 1/ 17.

(30) نفسه: 1/ 66.

(31) ينظر: البارودي رائد الشعر الحديث: 90.

(32) الديوان: 1/ 156.

(33) نفسه: 1/ 167.

(34) نفسه: 1/ 114.

(35) نفسه: 1/ 79.

(36) نفسه 1/ 31. (37) نفسه 1/ 52.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير