جُبل الانسان على ان يمر بمراحل عمرية لكل مرحلة خصائصها وسماتها .. ولعل اهم تلك المراحل واكثرها خصبا وعطاء هي مرحلة الشباب حيث ينضج الفرد ويشق طريقه في الحياة .. والشباب هي تلك الفترة التي تقع بعد فترة البلوغ التي تتسم بالنشاط والحيوية .. وتدفع الفرد الى العطاء والترفع عن سفاسف الامور بالتصرف بتأنٍ وحكمة وذلك حسبما تمليه عليه تربيته ونشأته .. ومرحلة الشباب هي الفترة التي يدخل فيها الفرد معترك الحياة فتصقله التجارب ويتعلم من المواقف ومن سير السلف الصالح الكثير مما ينفعه في تسيير دفة الحياة واتخاذ القرارات التي تعود عليه وعلى مجتمعه بالنفع الكثير. ويتوقع من كل فرد استمرار العطاء والعمل المثمر خلال تلك الفترة التي لابد لها ان تنتهي لتخلف العمل الطيب والذكريات الحافلة بالعطاءات مما يدعوه الى الفخر بما قدمه لمجتمعه اولاً ولنفسه ثانياً .. ولعلنا نسمع ونقرأ الكثير من الشعر الذي يتباكى فيه الشعراء على فترة الشباب وكأنما نسمع او نقرأ الندم فيما بين السطور والكلمات فنتساءل .. ترى لماذا التباكي على الشباب؟ أليس من الاجدى الافتخار به وبحجم الانجازات التي احرزها في حينه؟
الشاعر يقول:
ذهب الشباب فما له من عودة=وأتى المشيب فأين منه المهرب؟
وهذا ابو ماضي ينصح صاحبه بالا يأسف على مضي الشباب بقوله:
قال الصبا ولى فقلت له ابتسم=لن يرجع الاسف الصبا المتصرما
اما ابو الحسن البصري .. فهو يقرن المشيب بالحزن اذ كان العامة في الاندلس يرتدون اللباس الابيض في مناسبات الحزن فيقول:
اذا كان البياض لباس حزن=بأندلس فذاك من الصواب
ألم ترني لبست بياض شيبي=لاني قد حزنت على شبابي اذاً لماذا الاسف والتباكي على الشباب وايامه؟ ألم يكن الحجر الاساس الذي جنيت ثماره في سن الشيخوخة كالابناء الصالحين والنصيحة والعمل المثمر الذي دفع للمجتمع بخيرات كثيرة مما بعث السعادة والرضا في النفوس .. ان الشباب هو الخيط الاول في مد مسار العطاء والبناء فهو ليس الطيش واتباع الهوى وقضاء الوقت بسفاسف الامور .. والشاعر يقول:
ان الفراغ والشباب والجده=مفسدة للمرء اي مفسده
ولذلك وجب على كل شاب وشابه تذكر المثل القائل «الوقت كالسيف ان لم تقطعه قطعك» وتذكر قول الشاعر:
اتدري لماذا يصبح الديك صائحاً=يردد لحن النوح في غرة الفجر؟
ينادي لقد مرت من العمر ليلة=وها انت لا تشعر بذاك ولا تدري
نعم .. فجأة وبعد فوات الاوان نجد البعض ممن ضيعوا ايام شبابهم بالمتعة وضياع الوقت والتقاعس والاعتماد على الاهل ومصاحبة اصحاب السوء .. نجدهم قابعين في شيخوختهم يقطعهم الندم ويتمنون عودة الشباب لسببين احدهما للاستمتاع مرة اخرى وآخرهما لإصلاح ما افسد .. ولا يصلح العطار ما افسد الدهرفالشباب لن يعود والحياة طريق مرور ومن الاخيار الصالحين من قال «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً».
أما التمني بعودة الشباب فإنه هراء فالشاعر يقول:
ذهب الشباب فما له من عودة=وأتى المشيب فأين منه المهرب؟
وقد يغنينا هذا الدعم من التباكي على الماضي والتشاؤم من مقدم المشيب الذي ضاق احد الشعراء به ذرعاً فقال:
عيرتني بالشيب وهو وقار=ليتها عيرت بما هو عار
ان تكن شابت الذوائب مني=فالليالي تزينها الاقمار اذاً هو يجد التعليل رغم ألمه وحزنه .. وهذا الآخر يؤكد ان الشيب مصير كل فرد فيقول:
تعيرني بالشيب وهو مصيرها=وإني وإياها الى غاية نجري
ولربما يقصد بالغاية الصلاح والتوبة والحكمة والموعظة وإفادة الآخرين من التجارب وتقديم النصح والمشورة .. ان الغاية هي بناء ركائز المجتمع وتكوين الاسرة الصالحة المتكافلة وفناء العمر بالعبادة والكلمة الطيبة والمعاملة الانسانية الراقية والزهد في أمور الدنيا .. انها الإسهام في بناء جيل مدرك مخلص في عمله مضطلع بكل المسؤوليات المناطة به من اجل الحفاظ على سلالة البشرية وبناء وحدة المواطنة الصالحة التي تعتز بوطنها وتعمل لإسعاده وتخلص لتربيته.
قال احد الشعراء متشائماً من ظهور الشيب في مفارقه.
حل المشيب بعارضي ومفارقي=بئس القرين أراه ليس مفارقي
رحل الشباب فقلت قف لي ساعة=حتى اودع .. قال انك لاحقي
فالشباب اذاً يبقى مع المرء لا يفارقه بل ينمو معه ويشيب، ويلاحق اعماله حتى آخر العمر .. قال الشاعر منصور النميري:
¥