وقد عرف سيف الدولة أبعاد القصيدة والموقف الذي سبقها، وشعر من خلالها بالدوافع التي دفعت أبا فراس إلى اتخاذها، أما الحادثة الثانية: فهي قصيدة ألقاها أبو فراس في حضرة سيف الدولة وأمام اخيه ناصر الدولة، وقد مزج فيها الشاعر بين مدح سيف الدولة وهجاء ناصر الدولة باعتباره قائلاً لأبيه، والقصيدة توضيح بارز لمواقف أبي فراس المريبة ازاء قاتل أبيه، وتهجمه عليه، وذكره لمخازيه ومساوئه، ونبّه عمومته واقاربه إلى الترات التي لا تنسى:
هذي شيوخُ بني حمدان قاطبةً
لاذوا بدارك عند الخوف واعتصموا
ويقول موجها كلامه إلى ناصر الدولة:
شيخوخةٌ سبقت لافضلَ يتبعُها
وليس يفضلُ فينا الفاضلُ الهرمُ
ولم يفضل عقيلا في ولادته
على عليّ أخيه السن والقدم
وكيف يفضل من أزرى به بخل
وقعدة اليد والرجلين والصمم
لاتنكروا يابنيه ما أقول فلن
تنسى الترات ولا أنا حال شيخكم
كادت مخازيه ترديه فانقذه
منه بحسن دفاع عنه عمكم
وفي ضوء هاتين الحادثتين، موقف أبي فراس من خيول سيف الدولة، وهجاء ناصر الدولة، وبالتعريض بابنائه، وذكر الترات القديمة، نرى من خلالهما أن قلب كل من الأميرين قد فسد على الآخر فساداً لاصلاح بعده.
وتعمقت خشية سيف الدولة من أبي فراس، ولذا عدّ العدّة لكسر شوكته إن لم يستطيع الخلاص من، واستغلها سيف الدولة بعد أسر الشاعر، وكان الشاعر يظنّ أن دولة بني حمدان مرتكزة علية وبدونه لا تقوم، وأنّ سيف الدولة سيسعى لفدائه وإن كان جافياً له، لأن عماد دولته يقوم عليه، ولذلك كانت قصائده التي قالها في أول أسره طافحة بالفخر وتذكير سيف الدولة بمواقفه وقدراته، غير أن هذه فرصة سيف الدولة الوحيدة لكسر شوكته، ويريه ((أنّ الدولة غنية عنه وان النصر يتم بدونه)).
وأكد سيف الدولة موقفه هذا برفضه اطلاق سراح ابن أخت ملك الروم مقابل اطلاق سراح أبي فراس، كما أنَّ سيف الدولة لم يعر إهتماماً لأم الشاعر العجوز التي جاءت طالبة الاسراع بفك إسار ابنها، وكان لوفاتها وقعٌ كبيرٌ في نفس الشاعر، فقد ضاعف موتها عليه مرارة السجن.
وكانت آثار الجفوة تتعمق حتى بعد اسر الشاعر، هذه في امارته، وهذا في سجنه، فعندما بعث أبو فراس طالباً من سيف الدولة فداءه وان لم يستطع سيف الدولة كاتب لأجله صاحب خراسان، فكان رد سيف الدولة أكثر قسوة من طلب الأسير ((ومن أين يعرفه أهل خرسان))
وقصائد الشاعر في الفترة الأولى من سجنه تنم عن التعالى والفخر، ولكن سرعان ما أثر طول السجن في نفسه فأخذ يرسل مدائحه وعتابه لسيف الدولة آملا اطلاق سراحه:
أسيف الهدى وقريح العرب
علام الجفاء وفيم الغضب
ولكنه يعود أحياناً ثائراً على سيف الدولة ومتهجما عليه:
زماني كلُّه غضبٌ وعتبُ
وأنت عليّ والأيام إلب
ظللتَ تبدلُ الأقوالَ بعدي
ويبلغني اغتيابك ما يغب
وفي قصيدة أخرى يتهجم على سيف الدولة، ويذكر توقعه لهجرة له في المرحلة الأولى من حياته:
وربّ كلامٍ مرَّ فوق مسامعي
كما طنّ في لوح الهجير ذبابُ
إلى الله أشكو، اننا بمنازل
تحكم في آسادهنّ كلابُ
وقد كنت أخشى الهجر والشمل جامع
وفي كل يوم لقية وخطابُ
أمن بعد بذل النفس فيما تريده
أثاب بمر العتب فيما أثاب
والملاحظ انّ أبا فراس حين أطلق سراحه لم يمدح سيف الدولة، والقصيدة التي قالها لحظة تبادل الاسرى مليئة بالفخر، ولم يشر بها إلى سيف الدولة، وماذا تنتظر من شاعر وسياسي سجن مع بغض من ابن عمه ما يزيد على اربع سنوات!، ومما يؤكد هذا انّ أبا فراس لم يرث سيف الدولة بعد وفاته.
و حين أطلق سراح أبي فراس من سجنه ولاه سيف الدولة حمص، لأسباب منها إرضاء الشاعر كيلا يجعل منه ومن انصاره اعداء وخصوماً، ومن جهة ثانية أراد أنْ يبعد الشاعر من حلب عاصمته لأنّ حمص بعيدة نسبيا إذا ما قورنت بمنبج التي كان أبو فراس أميراًعليها قبل اسره، وحتى يتمكن اولاد سيف الدولة تركيز ملكهم بعد وفاة ابيهم، دون كبير أثر من أبي فراس.
¥