تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

يبدأ المعري في التمهيد للحوار بالتعرض لأمر كان قد أمضه وأثر فيه أشد التأثير وهو ما كان عليه أهل العلم في عصره من ضيق ذات اليد وتنكر الزمان والمجتمع فهم يفكرون بوضعهم المادي فيتألمون ويشاهدون الأمراض الاجتماعية فيشيرون أو يلوحون أو يرمزون ولكن دونما فائدة أو جدوى فهم غرباء بل في الحقيقة =هم أشد غربة هكذا كان حال العصر وهكذا كان طبع المجتمع فها هو ذا المعري يقول لأبي القاسم وهو ممن أدركتهم حرفة الأدب وألحت عليهم ظروف المجتمع وطبائعه، وليس مولاي بأول رائد ظعن إلى الأرض العازبة فوجدها من النبات قفراً ولا بآخر شائم ظن بالسحابة خيراً فكانت من قطر صفراً .. وما أنت بمسمع من في القبور". ثم يبدي المعري تواضعاً ولكنه تواضع العلماء فهو بعد أن شاخ وألحت عليه الشيخوخة لا يؤثر أن يزداد في صحيفته خطأ في النحو فيخلد أو سقطة في اللغة فتشيع فلا يريد أن يسأل ولا يريد أن يجيب لذلك تراه يقول لأبي القاسم "وحق لمثلي ألا يسأل فإن سئل تعين عليه ألا يجيب فإن أجاب ففرض على السامع ألاَّ يسمع فإن خالف باستماعه ففريضة ألا يكتب ما يقول فإن كتب فواجب ألا ينظر فيه فإن نظر فيه فقد خبط في عشواء".

ورغم فرح المعري بمسائل أبي القاسم لم يعد يروق له الاشتغال بهذه الأمور فهو هذيان لا يجدي نفعاً في الحياة الدنيا وإن كانت هذه حاله في الدنيا فهل يكون ذا غناء في الحياة الأخرى .. من هنا يدخل المعري إلى مقدمته الحوارية فها هو ذا قد قارب أجله أو كاد وقد حصل من العلم الكثير ولكنه لم ينتفع منه في دنياه ولا يظن أنه سينتفع منه في أخراه، أتراه ينتفع منه في مدافعة ملك الموت فيشاغله عمّا هو فيه من مهام فيدخله في متاهة لغوية خيالية تتصل بلفظة ملك فانظر إليه يقول "أفتراني أدافع ملك النفوس فأقول أصل ملك مالك وإنما أخذ من الألوكة وهي الرسالة ثم قلب فيعجبه ما سمع فينظرني ساعة لاشتغاله بما قلت فإذا هم بالقبض قلت وزن ملك على هذا معل" ويروح المعري في تصريفات واشتقاقات لغوية طويلة ولكن ذلك لا ينقذه مما هو فيه حيث يجيبه ملك الموت في النهاية (إن كان لك عمل صالح فأنت السعيد وإلا فاخسأ) ولكن المعري يمضي منتقلاً من ملك إلى ملك حتى يصل إلى ملكي القبر فيناقشهما في اسميهما ولكن لا يقابل ذلك إلا بتهاون وعدم مبالاة حيث يقول "فإذا عجبت مما قالاه أظهرا لي تهاوناً بما يعلمه بنو آدم وقالا لو جمع ما علمه أهل الأرض على اختلاف الأزمنة لما بلغ علم واحد من الملائكة وأقول قد صارت لي بكما وسيلة فوسعا لي في الجدف إن شئتما بالفاء وإن شئتما بالثاء .. فيقولان أو أحدهما إنك لمتهدم الجول (جدار البئر) وإنما يوسع لك في ريمك (قبرك) عملك". ثم يسهب المعري في أمور لغوية متعددة بدءاً من ريمك إلى سقر إلى جهنم وغيرها حتى يصل إلى جماعة من خمان الأدباء (خمان الأدباء يعني خشارتهم) قصرت أعمالهم عن دخول الجنة ولحقهم عفو الله فزحزحوا عن النار وهم يخاطبون رضوان فيقولون له: يارضو على الترخيم فيستكثر عليهم هذه المخاطبة التي لم يخاطب بها من قبل ثم يلتمسون منه الدخول إلى الجنة ليعلموا أهلها العربية السليمة ويفسروا لهم معاني تسمياتها الغريبة من سندس وطوبي وعبقري وغيرها يشرحون أصولها وكيفية تصريفها واستخدامها استخداماً صحيحاً فصيحاً ويبرعون في الإقناع أشد البراعة ولكن رضوان يقول لهم "فانصرفوا رحمكم الله فقد أكثرتم الكلام فيما لا منفعة فيه وإنما كانت هذه الأشياء أباطيل زخرفت في الدار الفانية فذهبت مع الباطل" فإذا رأوا جده في ذلك رجوه في مخاطبة بعض علمائهم الذين حصلوا في الجنة فيخيرهم فيؤثرون الخليل بن أحمد الفراهيدي فيشرف عليهم من الجنة قائلاً لهم "وإنما افتقر الناس في الدار الغرارة إلى علم اللغة والنحو لأن العربية الأولى أصابها تغيير. فأما الآن فقد رفع عن أهل الجنة كل الخطأ والوهم فاذهبوا راشدين".

وهكذا يؤكد المعري على أن من أدركتهم حرفة الأدب ليس لهم حظ في الدنيا ولا يغني عنهم أدبهم وعلمهم أي غناء في الحياة الأخرى. هذا ما يظهر من مرامي المعري القريبة غير أن إحساسي وشعوري يحدثانني بأن هناك مرامي أبعد من ذلك قصد إليها المعري ولم نستطع استنباطها وقد يأتي من يفعل. فمن خلال الحوار ومن خلال ما أثاره هو سواء على لسان الملائكة أو لسان خمان الأدباء أو غيرهم تلمح إشارات ورموز لأبعاد خفية ودنيا فكرية واسعة تحتاج إلى يد صنّاع لتكشف عنها البرقع حتى تقف على الحقيقة. وما يؤنس من خلال رحلتي مع المقدمة الحوارية أن المعري قد أدرك ما فاته من رسالة الغفران وبخاصة مشهدي القبض وحساب القبر وما يرد عليهما من أحوال.

ويبقى أن نقول كلمة أخيرة في المسائل الصرفية فقد عالجها المعري معالجة العالم المحيط الذي جمع علوم الأولين والآخرين غير أنها تبقى مسائل ذات قيمة علمية وليست شردة من شردات الخيال الرائعة التي فاقت وبهرت. وأعود لأؤكد في النهاية أن القيمة في هذه الرسالة هي للمقدمة الحوارية وبودي لو وفرت بنت الشاطئ عليها نفسها ونظرت إلى إشاراتها ورموزها ودرستها مع رسالة الغفران بنسق واحد لجنينا الكثير ولعله يتم وإن غداً لناظره قريب.


نشر هذا البحث في:

مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العددان:15 و 16 - السنة الرابعة - رجب وشوال 1404 - نيسان "ابريل" و تموز "يوليو" 1984
¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير