تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

لا تبالغ في رفع الصوت أثناء الحوار، فليس من قوة الحجة المبالغة في رفع الصوت في النقاش والحوار؛ بل كلَّما كان الإنسان أهدأ كان أعمق؛ ولهذا تجد ضجيج البحر وصخبه على الشاطئ، حيث الصخور والمياه الضحلة، وحيث لا جواهر ولا درر، فإذا مشيت إلى عمق البحر ولجته وجدت الهدوء، حيث الماء العميق ونفائس البحر وكنوزه؛ لذلك يقول المثل الغربي: "الماء العميق أهدأ".


المبحث السابع
أمثلة من الحوارات

حوار بين إسحق والشافعي:
هذا حوار جرى بين إسحاق بن راهويه رحمه الله -إمام من أئمة أهل الحديث- وبين الشافعي.
يقول إسحاق: إن الإمام أحمد لمَّا كان في مكة، قال: لماذا لا تذهب للشافعي وتستفيد منه؟ قلت له: كيف أترك ابن عيينة والمشايخ وأذهب إلى الإمام الشافعي؟ قال له: يفوت وهم لا يفوتون.
قال: فذهبنا إليه فتناظرنا في كراء (17) بيوت مكة، هل تكرى، أو لا تكرى؟ قال: فتكلمت مع الشافعي وتحمست؛ ولكن الشافعي كان متساهلاً، فتكلَّمت بالفارسية مع رجل جانبي، وذكر كلمة بالفارسية معناها: هذا ليس عنده كمال -يعني الشافعي-، قال: فعلم الشافعي أني أسبه، وإن كان لا يجيد اللغة، فقال: هل تريد أن تناظرني؟ قلت: من أجل المناظرة جئت!
قال: أرأيت قول الله تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) [الحشر:8]، أليس الله نسب الديار إلى أربابها، أو إلى غير أربابها؟ قال: قلت: بل إلى أربابها، قال: عمر لما اشترى دار السجن بمكة (18)، اشتراها من إنسان يملكها، أو لا يملكها؟ قلت: ممن يملكها، قال: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور" (19) الدور لهم، أو ليست لهم؟ قلت: لهم.
قال إسحاق: فقلت: الدليل على صحة قولي أنه قال به من التابعين فلان وفلان وفلان، قال: فالتفت الشافعي إلى رجل بجنبه وقال: من هذا؟ قال له: هذا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، قال: أنت الذي يزعم أهل خراسان أنك فقيههم؟!، قلت: هكذا يزعمون! قال: ما أحوجني أن يكون غيرك في مكانك فآمر بعرك أذنه، -هذا أدب يؤدب به الطالب الصغير-، قال: أقول لك: قال الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت تقول: قال: عطاء وطاوس والحسن وإبراهيم؟! وهل لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة؟ (20).
ومثلها قصة أخرى طريفة جرت بحضرة الإمام أحمد، وذلك أن الشافعي وإسحاق تناظرا -أيضًا- في جلود الميتة إذا دُبغت هل تطهر، أو لا تطهر؟ فقال الشافعي: دباغ جلود الميتة طهورها، فإذا دُبغ جلد الميتة طهر، قال إسحاق: ما الدليل؟ قال: الدليل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد شاة ميتة، أُعطيَتها مولاة لميمونة من الصدقة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هلا انتفعتم بجلدها؟ "، قالوا: إنها ميتة، فقال: "إنما حَرُم أكلها" (21).
قال إسحاق: دليلي على أن جلود الميتة لا تطهر: حديث عبد الله بن عكيم أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إليهم قبل أن يموت بشهر: "لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" (22) يعني لا بجلد، ولا بعظم، وهذا يمكن أن يكون ناسخًا؛ لأنه قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بشهر، قال الشافعي: هذا كتاب الرسول عليه الصلاة والسلام، وذاك سماع، والسماع مقدَّم، فقال له إسحاق: إن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وقيصر والنجاشي وغيرهم، وكان ذلك حجة عليهم عند الله تعالى، فسكت الشافعي.
والغريب في الأمر أن أحمد بن حنبل ذهب بعد تلك المناظرة إلى حديث عبد الله بن عكيم وقال به، ثم رجع عنه فيما بعد، وكذلك رجع إسحاق إلى حديث الشافعي وقال به (23)، وهذا دليل على تجردهم، وسعيهم للوصول إلى الحق.

حوار بين أبي علي بن شاذان وشيعي (24):
ومن طرائف المناظرات: أن أبا علي بن شاذان -وهو فقيه وعالم، ولكنه كان ضعيفًا في النحو- ناظر أحد الشيعة حول قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا نورَث، ما تركنا صدقة" (25).
فقال أبو علي بن شاذان: هذا دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يورث، فرد ذلك الشيعي: إن لفظة "صدقة" الواردة في الحديث حال منصوب، والمعنى: أن ما تركناه -نحن الأنبياء- من الصدقات، فإنه لا يورث، أما بقية مالنا مما لم نخصصه للصدقة، فإنه يورث.
¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير