تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

موجب أسمائه الحسنى وصفاته العليا فكيف يكون فرح سيده به وقد عاد إليه حبيبه ووليه طوعا واختيارا وراجع ما يحبه سيده منه برضاه وفتح طريق البر والإحسان والجود التي هي أحب إلى سيده من طريق الغضب والإنتقام والعقوبة، وهذا موضع الحكاية المشهورة أنه حصل له شرود وإباق من سيده فرأى في بعض السكك بابا قد فتح وخرج منه صبي يستغيث ويبكي وأمه خلفه تطرده حتى خرج فأغلقت الباب في وجهه ودخلت فذهب الصبي غير بعيد ثم وقف مفكرا فلم يجد له مأوى غير البيت الذي أخرج منه ولا من يؤيه غير والدته فرجع مكسور القلب حزينا فوجد الباب مرتجا فتوسده ووضع خده على عتبة الباب ونام فخرجت أمه فلما رأته على تلك الحال لم تملك أن رمت نفسها عليه والتزمته تقبله وتبكي وتقول يا ولدي أين تذهب عني ومن يؤيك سواي ألم أقل لك لا تخالفني ولا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جبلت عليه من الرحمة بك والشفقة عليك وإرادتي الخير لك ثم أخذته ودخلت، فتأمل قول الأم لا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جبلت عليه من الرحمة والشفقة، وتأمل قوله لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها وأين تقع رحمة الوالدة من رحمة الله التي وسعت كل شيء، فإذا أغضبه العبد بمعصيته فقد استدعى منه صرف تلك الرحمة عنه فإذا تاب إليه فقد استدعى منه ما هو أهله وأولى به، فهذه نبذة يسيرة تطلعك على سر فرح الله بتوبة عبده أعظم من فرح هذا الواجد لراحلته في الأرض المهلكة بعد اليأس منها، ووراء هذا ما تجفو عنه العبارة وتدق عن إدراكه الأذهان، وإياك وطريقة التعطيل والتمثيل فإن كلا منهما منزل ذميم ومرتع على علاته وخيم ولا يحل لأحدهما أن يجد روائح هذا الأمر ونفسه لأن زكام التعطيل والتمثيل مفسد لحاسة الشم كما هو مفسد لحاسة الذوق فلا يذوق طعم الإيمان ولا يجد ريحه والمحروم كل المحروم من عرض عليه الغني والخير فلم يقبله فلا مانع لما أعطى الله ولا معطي لما منع والفضل بيد الله يوتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

فصلهذا إذا نظرت إلى تعلق الفرح الإلهي بالإحسان والجود والبر وأما إن لاحظت تعلقه بإلهيته وكونه معبودا فذاك مشهد أجل من هذا وأعظم منه وإنما يشهده خواص المحبين، فإن الله سبحانه إنما خلق لعبادته الجامعة لمحبته والخضوع له وطاعته وهذا هو الحق الذي خلقت به السموات والأرض وهو غاية الخلق والأمر ونفيه كما يقول أعداؤه هو الباطل والعبث الذي نزه الله نفسه عنه وهو السدى الذي نزه نفسه عنه أن يترك الإنسان عليه وهو سبحانه يحب أن يعبد ويطاع ولا يعبأ بخلقه شيئا لولا محبتهم له وطاعتهم له ودعاؤهم له، وقد أنكر على من زعم أنه خلقهم لغير ذلك وأنهم لو خلقوا لغير عبادته وتوحيده وطاعته لكان خلقهم عبثا وباطلا وسدى وذلك مما يتعالى عنه أحكم الحاكمين والإله الحق فإذا خرج العبد عما خلق له من الطاعة والعبودية فقد خرج عن أحب الأشياء إليه وعن الغاية التي لأجلها خلقت الخليقة وصار كأنه خلق عبثا لغير شيء إذ لم تخرج أرضه البذر الذي وضع فيها بل قلبته شوكا ودغلا فإذا راجع ما خلق له وأوجد لأجله فقد رجع إلى الغاية التي هي أحب الأشياء إلى خالقه وفاطره ورجع إلى مقتضى الحكمة التي خلق لأجلها وخرج عن معنى العبث والسدى والباطل فاشتدت محبة الرب له فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين فأوجبت هذه المحبة فرحا كأعظم ما يقدر من الفرح ولو كان في الفرح المشهود في هذا العالم نوع أعظم من هذا الذي ذكره النبي لذكره ولكن لا فرحة أعظم من فرحة هذا الواجد الفاقد لمادة حياته وبلاغه في سفره بعد إياسه من أسباب الحياة بفقده وهذا كشدة محبته لتوبة التائب المحب إذا اشتدت محبته للشيء وغاب عنه ثم وجده وصار طوع يده فلا فرحة أعظم من فرحته به، فما الظن بمحبوب لك تحبه حبا شديدا أسره عدوك وحال بينك وبينه وأنت تعلم أن العدو سيسومه سوء العذاب ويعرضه لأنواع الهلاك وأنت أولى به منه وهو غرسك وتربيتك ثم إنه انفلت من عدوه ووافاك على غير ميعاد فلم يفجأك إلا وهو على بابك يتملقك ويترضاك ويستعينك ويمرغ خديه على تراب أعتابك فكيف يكون فرحك به وقد اختصصته لنفسك ورضيته لقربك وآثرته على سواه، هذا ولست الذي أوجدته وخلقته وأسبغت عليه نعمك والله عز وجل هو الذي أوجد عبده وخلقه وكونه وأسبغ عليه نعمه وهو يحب أن يتمها عليه فيصير مظهرا لنعمه قابلا لها شاكرا لها محبا لوليها مطيعا له عابدا له معاديا لعدوه مبغضا له عاصيا له والله تعالى يحب من عبده معاداة عدوه ومعصيته ومخالفته كما يحب أن يوالى الله مولاه سبحانه ويطيعه ويعبده فتنصناف محبته لعبادته وطاعته والإنابة إليه إلى محبته لعداوة عدوه ومعصيته ومخالفته فتشتد المحبة منه سبحانه مع حصول محبوبه وهذا هو حقيقة الفرح، وفي صفة النبي في بعض الكتب المتقدمة عبدي الذي سرت به نفسي وهذا لكمال محبته له جعله مما تسر نفسه به سبحانه، ومن هذا ضحكه سبحانه من عبده حين يأتي من عبوديته بأعظم ما يحبه فيضحك سبحانه فرحا ورضا كما يضحك من عبده إذا ثار عن وطائه وفراشه ومضاجعة حبيبه إلى خدمته يتلو آياته ويتملقه، ويضحك من رجل هرب أصحابه عن العدو فأقبل إليه وباع نفسه لله ولقاهم نحره حتى قتل في محبته ورضاه، ويضحك إلى من أخفى الصدقة عن أصحابه لسائل اعترضهم فلم يعطوه فتخلف بأعقابهم وأعطاه سرا حيث لا يراه إلا الله الذي أعطاه فهذا الضحك منه حبا له وفرحا به وكذلك الشهيد حين يلقاه يوم القيامة فيضحك إليه فرحا به وبقدومه عليه، وليس في إثبات هذه الصفات محذور ألبتة فإنه فرح ليس كمثله شيء وضحك ليس كمثله شيء وحكمه حكم رضاه ومحبته وإرادته وسائر صفاته فالباب باب واحد لا تمثيل ولا تعطيل.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير