تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فلا تهملوا أمر هذه الثغر وأفسدوا بحسب استطاعتكم، وهونوا عليه أمره وقولوا له مقدار نظرةٍ تدعوك إلى تسبيح الخالق والتأمل لبديع صنعه، وحسن هذه الصورة التي إنما خلقت ليستدل بها الناظر عليه وما خلق الله لك العينين سدى وما خلق هذه الصورة ليحجبها عن النظر.

ثم امنعوا ثغر الأذن أن يدخل منه ما يفسد عليكم الأمر، فاجتهدوا أن لا تدخلوا منه إلا الباطل فإنه خفيف على النفس تستحليه وتستحسنه، وتخيروا له أعذب الألفاظ وأسحرها للألباب، وامزجوه بما تهوى النفس مزجاً وألقوا الكلمة فإن رأيتم منه إصغاء إليها، فزجوه بأخواتها، وكلما صادفتم منه استحسان شيء فالهجوا له بذكره.

وإياكم أن يدخل هذا الثغر شيء من كلام الله أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم أو كلام النصحاء، فإن غُلبتم على ذلك ودخل من ذلك شيء، فحولوا بينه وبين فهمه وتدبره والتفكر فيه والعظة به، إما بإدخال ضده عليه وإما بتهويل ذلك وتعظيمه، وأن هذا الأمر قد حيل بين النفوس وبينه فلا سبيل لها إليه، وهو حِملٌ يثقل عليها لا تستقل به ونحو ذلك.

وأما بإرخاصه على النفوس، وأن الاشتغال ينبغي أن يكون بما هو أعلى عند الناس وأعز عليهم وأغرب عندهم والقابلون له أكثر، وأما الحق فهو مهجور وقائله معرض نفسه للعداوة. والرائج بين الناس أولى بالإيثار ونحو ذلك، فيدخلون الباطل عليه في كل قالب يقبله ويخف عليه ويخرجون له الحق في قالب يكرهه ويثقل عليه.

وإذا شئت أن تعرف ذلك انظر إلى إخوانهم من شياطين الإنس، كيف يخرجون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قالب كثرة الفضول وتتبع عثرات الناس، والتعرض من البلاء لما لا يطيق، وإلقاء الفتن بين الناس ونحوذلك.

والمقصود أن الشيطان لزم ثغر الأذن أن يدخل فيها ما يضر العبد ولا ينفعه، ويمنع أن يدخل إليها ما ينفعه، وإن دخل بغير اختيار أفسده عليه.

ثم يقول: قوموا على ثغر اللسان، فإنه الثغر الأعظم، وهو قبالة الملك، فأجروا عليه من الكلام ما يضره ولا ينفعه، وامنعوه أن يجري عليه شيء مما ينفعه، من ذكر الله تعالى، واستغفاره، وتلاوة كتابه ونصيحة عباده، والتكلم بالعلم النافع، ويكون في هذا الثغر أمران عظيمان، لا تبالون بأيهما ظفرتم:

أحدهما: التكلم بالباطل، فإن المتكلم بالباطل أخ من إخوانكم ومن أكبر جندكم وأعوانكم.

والثاني: السكوت عن الحق، فإن الساكت عن الحق أخ لكم أخرس، كما أن الأول أخٌ ناطقٌ، وربما كان الأخ الثاني أنفع أخويكم لكم، أما سمعتم قول الناصح (المتكلم بالباطل شيطان ناطقٌ، والساكت عن الحق شيطان أخرس.

فالرباط على هذا الثغر أن يتكلم بحق، أو يمسك عن باطل. وزينوا له التكلم بالباطل بكل طريق، وخوفوه من التكلم بالحق بكل طريق. واعلموا يا بني أن ثغر اللسان هو الذي أهلك منه بني آدم وأكبهم على مناخرهم في النار. فكم لي من قتيل وأسير وجريح أخذته من هذا الثغر.

وأوصيكم بوصية فاحفظوها، لينطق أحدكم على لسان أخيه من الإنس بالكلمة، ويكون الآخر على لسان السامع، فينطق باستحسانها وتعظيمها والتعجب منها، ويطلب من أخيه إعادتها، وكونوا أعواناً على الإنس بكل طريق، وادخلوا عليهم من كل باب، واقعدوا لهم كل مرصد.

أما سمعتم الذي أقسمت به لربهم حيث قلت: ?فَبِمَا أَغوَيتَنِي لأَقعُدَنَّ لَهُم صِرَاطَكَ المُستَقِيمَ (16) ثُمَّ لأَتِينَهَُّم مّن بَينِ أَيدِيهِم وَمِن خَلفِهِم وَعَن أَيمَانِهِم وَعَن شَمَائِلِهِم وَلا تَجِدُ أَكثَرَهُم شَاكِرِين (17) ? [الأعراف:17،16] أوما تروني قد قعدت لابن آدم بطرقه كلها، فلا يفوتني من طريق إلا قعدت له بطريق غيره، حتى أصيب منه حاجتي أو بعضها.

وقد حذرهم ذلك رسولهم صلى الله عليه وسلم وقال لهم [إن الشيطان قد قعد لابن آدم بطرقه كلها، وقعد بطريق الإسلام، فقال: أتسلم وتذر دينك ودين آبائك، فخالفه وأسلم، فقعد له بطريق الهجرة، فقال: أتهاجر وتذر أرضك وسماءك، فخالفه وهاجر، فقعد له بطريق الجهاد، فقال: أتجاهد فتُقتل فيُقسم المال وتُنكح الزوجة]

فهكذا فاقعدوا لهم بكل طرق الخير، فإذا أراد أحدهم أن يتصدق فاقعدوا له على طريق الصدقة، وقولوا له في نفسه: أتخرج المال فتبقى مثل هذا السائل، وتصير بمنزلته أنت وهو سواء.

أوما سمعتم ما ألقيت على لسان رجل سأله آخر أن يتصدق عليه، فقال: هي أموالنا إن أعطيناكموها صرنا مثلكم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير