تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وما علم هذا القائل أن لغة العرب لم توضع أصلاً إلا لما شاهدوه وأحسوا به وعاينوه، وأما ما لم يروه فليس لهم تفسير له، ولا بيان معنى، فلغات الدنيا كلها ما وضعت إلا لتفسير وبيان اسم شيء يعرفونه ويميزونه باسمه الذي أطلقوه عليه، فإن قالوا الاسم: عرفوا المعنى منه، من كيفية، ومن ماهية وحقيقة.

فمن زعم أن له مثل هذا البيان والتفسير فيما يتعلق بالله تعالى: فليبينه ببرهان لا شك فيه، لا أن يستروح بنقل المتأخرين في كتب الاعتقاد أن المعنى معلوم، ثم إذا سألهم سائل: ما هو هذا المعلوم؟ هل الكيفية أو الحقيقة؟ لم يجيبوا لا بمعرفة هذا ولا ذاك؛ لأنهم يعلمون أنهم إذا زعموا أن الكيفية معلومة فقد كذبوا جهاراً، وإن زعموا أيضاً بأنهم يعرفون المعنى فقد كذبوا كذلك، إذ المعنى ما هو إلا كيفية الشيء وماهيته، وذات الله تعالى وما تعلق به لم يطلعنا لا على كيفية، ولا على ماهية وحقيقة، ولا فسره لنا، ولا فسره رسوله صلى الله عليه وسلم، بل أمرنا بالإيمان به كما هو، كما أمرنا أن نؤمن بالملائكة والكتب والأنبياء ونحن في هذا الزمان لم نر أحداً منهم، فكذلك ما تعلق بذات الله تعالى، فهو من جملة ما أمرنا بالإيمان به، وأن لا نتكلف بحثه والخوض فيه والادعاء بأننا نعرفه زوراً.

فما تجرأ الصحابة ولا التابعين من بعدهم على الخوض في كيفية ما تعلق بذات الله تعالى، ولا حقيقة ذاته، وإنما كان هذا من فعل أصحاب البدع من بعد هذه القرون الفاضلة وأضرابهم الذين أخذوا يخوضون في هذا الأمر لبيان ما فيه كذباً منهم وإفكاً، نسأل الله السلامة من ذلك، أو تكلم به عالم من علماء السنة من غير تحقيق لما يؤول إليه كلامه، فهذا نسأل الله يغفر له وأن يتجاوز عنه؛ لأنه مخطئ قد قال كلمة لم يحقق ما فيها من معنى.

فإذا قال تعالى أن له وجهاً سبحانه، وأن له يداً، وأن له قدماً، أو رجلاً، وأن له عيناً، فكل ذلك حق وواجب الإيمان به، نقول كما قال ربنا تعالى، ولا نزيد من عند أنفسنا، ولا نقول أن اليد هنا كما يفهم العربي في لغته؛ لأن هذا كذب على اللغة، إذ اللغة لا تعرف اليد إلا اليد من المخلوق، التي هي جسم وعضو من لحم ودم له فائدة في الاستناد والكتاب والرفع والحمل وغير ذلك، ولا تعرف اليد من الخالق، لا نعرف حقيقتها، ولا كيفيتها؛ لأن أهل اللغة لم يروها، ولم يخبرهم النص بذلك حتى يقولوا به، فمن زعم أنه يعرف المعنى فليذكر ما هو هذا المعنى؟ فالاتفاق بين أهل الحق قائم على أن الكيفية مجهولة، فبقي المعنى الذي يظهر الماهية والحقيقة من الشيء، فهل عندهم برهان من نص، أو إجماع، أو لغة تشهد بما يقولون؟ فإن أظهروه: صدقوا، وإن احتجوا بقول شيخ الزمان وأعجوبة الأيام ونصير الإسلام كعادتهم: فقد أظهروا كذب ما يدعون، فهم في أمرين لا يخرجون عنهما: فأولهما: التناقض، إذ دعواهم أنهم يعرفون المعنى دون الكيفية بلا دليل يوجب هذه المعرفة للمعنى، وثانيهما: التجسيم، إذ يقولون اليد معناها معروف في لغة العرب، فيد الله معروفة! وهذا الزعم أداهم إلى الوقوع في التجسيم من حيث لا يشعرون، إذ لغة العرب تعرف اليد التي هي للمخلوق، ولا تعرف اليد التي هي للخالق سبحانه وتعالى.

فإن كذبوا وقالوا: يد الله تعرفها لغة العرب، فقد ركبوا التجسيم بلا شك؛ لأنهم إذا قالوا: يد الله معروفة كما هي يدنا، فقد وصفوا يد الله تعالى بما يعرفونه من وصف اليد المخلوقة.

فإن قالوا كعادتهم: الكيفية مجهولة!

قلنا: ما خالفناكم أصلاً في جهلنا بالكيفية، وإنما خالفناكم بالماهية والحقيقة، إذ كل شيء فإنما معناه من كيفياته وماهيته من جسم أو عرض، فقد لبّستم على الناس في قولكم (المعنى معلوم) فإن كنتم تعنون العلم بالماهية والحقيقة: فقد نسبتم إلى الله تعالى ما لا يحل، وكنتم من المجسمة بانشراح صدر، وأوجب قولكم التناقض ولا بد، فالحمد لله الذي قال ولا يحيطون به علماً، فأمنا من الإحاطة والعلم ما دمنا في الدنيا، ولا ندري أندري حقيقته وماهيته وكيفية ما تعلق به يوم القيامة أو لا، فذلك راجع إلى الله تعالى وما يتفضل به على خلقه الذين دخلوا الجنة، نسأل الله أن نكون من هؤلاء.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير