ويقول: "ولو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأ مغفوراً له قمنا عليه وبدعناه وهجرناه لما سلم معنا لا ابن نصر، ولا ابن منده، ولا من هو أكبر منهما، والله هو هادي الخلق إلى الحق وهو أرحم الراحمين ([ cix]).
يرى الإمام أحمد – رحمه الله – أنه لا يصح هجر المخالف والمجتهد في فروع الاعتقاد، كما كان يخالفه إسحاق وابن نصر في مسألة خلق القرآن ([ cx]) وابن مندة في مسألة أمية النبي – e–([cxi]).
وهاتان القضيتان العقديتان من القضايا الاجتهادية المهمة ومع ذلك فقد أعذر الإمام أحمد وهو إمام أهل السنة والجماعة مخالفيه في ذلك.
ويقول الإمام الطحاوي: "ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين ما داموا بما جاء به النبي r معترفين، وله بكل ما قاله وأخبر مصدقين " ([ cxii]) فالمسلم عند الإمام الطحاوي هو من يشهد أن لا اله إلا الله ويؤمن ويصدق بكل ما جاء به الرسول e وإن كانوا متأولاً أو مخالفا في بعض القضايا باجتهاده.
وقال الإمام أبو الحسن الأشعري في بداية كتابه مقالات الإسلاميين قبل أن يورد اختلافات المسلمين في مسائل الاعتقاد (اختلف الناس بعد نبيهم r في أشياء كثيرة ضلل بعضهم بعضا وبرئ بعضهم من بعض فصاروا فرقًا متباينين وأحزابا مشتتين إلا أن الإسلام يجمعهم ويشمل عليهم) ([ cxiii]).
وقد ذكرت كلام البيهقي في انقسام المسائل إلى أصول وفروع، وقد أعذر من خالف في الفروع ورتب عليه الأجر من الله تعالى ([ cxiv]).
وروى ابن عساكر عن أبي زاهر علي بن زاهر بن أحمد السرخسي يقول: " لما قرب حضور أجل أبي الحسن الأشعري – رحمه الله – في داري ببغداد دعاني فأتيته، فقال: أشهد أني لا أكفر أحداً من أهل هذه القبلة، لأن الكل يشيرون إلى معبود واحد، وإنما هذا كله، اختلاف العبارات" ([ cxv]). وفي كلام الأشعري تركيز على القواسم المشتركة بين المسلمين من شهادتهم أن لا اله إلا الله وأن معبودهم واحد وإيمانهم بالإسلام واحد، وعدم اعتبار للقضايا الجزئية التي يخالف بعض المسلمين بعضهم فيها، واعتبارهم مسلمين لا يجوز تكفيرهم، فإذا اعتبرهم مسلمين فانه ينتقد انقسام المسلمين إلى فرق وأحزاب متطاحنة فيجب عند ذلك ولاؤهم ونصرتهم.
ويقرر ابن حزم إعذار المجتهد فيما ذهب إليه في اجتهاده، فيقول: "ومن بلغه الأمر عن رسول الله r من طريق ثابتة وهو مسلم فتأول في خلافه إياه، أو رد ما بلغه بنص آخر، فما لم تقم عليه الحجة في خطئه في ترك ما ترك، وفي الأخذ بما أخذ، فهو مأجور معذور، لقصده على الحق، وجهله به، وإن قامت عليه الحجة في ذلك فعاند، فلا تأويل بعد قيام الحجة " ([ cxvi]).
ويذكر ابن حزم مبررات الخلاف بين المجتهدين من حيث النصوص ثبوتا ودلالة ومن حيث وصولها للمجتهد أو عدم وصولها ويعذره فيما يذهب إليه في مخالفته فان أقيمت عليه الحجة فعليه أن يرجع للحجة الراجحة.
ويقدم إلينا الإمام الغزالي رحمه الله نصاً محكماً في الاجتهاد والاختلاف فيقول: " اعلم أن شرح ما يكفر به وما لا يكفر به يستدعي تفصيلا طويلا يفتقر إلى ذكر كل المقالات والمذاهب، وذكر شبهة كل واحد، ودليله، ووجه بعده عن الظاهر، ووجه تأويله، وذلك لا تحويه مجلدات، ولا تتسع لشرح ذلك أوقات، فاقتنع الآن بوصية وقانون، أما الوصية فأن تكف لسانك عن أهل القبلة ما داموا قائلين لا إله إلا الله محمد رسول الله بعذر أو غير عذر، فإن التكفير فيه خطر والسكوت لا خطر فيه، أما القانون فهو أن تعلم أن النظريات قسمان: قسم يتعلق بأصول الدين، وقسم يتعلق بالفروع، وأصول الإيمان ثلاثة: الإيمان بالله وبرسوله واليوم الآخر، وما عداه فروع، وأعلم أنه لا تكفير في الأصول أصلا إلا في مسالة واحدة، وهي أن ينكر أصلا دينيا علم من الرسول r بالتواتر، ولكن في بعضها تخطئة كما في الفقهيات وفي بعضها تبديع كالخطأ المتعلق بالإمامة وأحوال الصحابة " ([ cxvii]). ويظهر من كلام الغزالي عدم تكفير المسلم سواء كان خطؤه بعذر أو بغير عذر احتياطا للدين، ويرى انه لا يجوز التكفير للمسلم المخالف إلا في قضايا الأصول من الدين وهي الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر دون الفروع في الدين وهي ما سوى ذلك.
¥