3 - و قد بيّن الإمام أبو العباس القرطبي في كتابه " المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم " أن ذلك الإجماع لا يعارضه الخلاف المنقول بين العلماء (في اعتبار رؤية أهل بلد للهلال رؤية لغيره من البلاد و عدم اعتباره)؛ قال: (و هذا الإجماع الذي حكاه أبو عمر يدل: على أن الخلاف الواقع في هذه المسألة إنما هو فيما تقارب من البلاد، و لم يكن في حكم القطر الواحد).
- أما فيما تباعد من الأقطار " كتباعد بلاد الشام من الحجاز أو ما قارب ذلك: فالواجب على أهل كل بلد أن تعمل على رؤيته، دون رؤية غيره "، قاله الإمام القرطبي في " المفهم " و قال في الحديث المذكور آنفا: " فهو حجة على أن البلاد إذا تباعدت كتباعد .... ".
•** و إنما وقع اللبس في مفهوم كلمة " البلد أو البلاد " الواردة في كلام الأئمة: فالخلاف: كان في اعتبار رؤية بلد من بلاد القطر الواحد و ما تقارب من بلاد المسلمين، أما الإجماع: فكان في عدم اعتبار رؤية ما تباعد من البلاد و الأقطار.
• و قد حكى الإمام ابن عبد البر ذلك الإجماع في كتابه " الاستذكار " عقب ذكره الخلاف المنقول عن العلماء؛ فهو لم يكن غافلا عنه، و محله فيما تقارب من البلدان؛ كما قال أبو العباس القرطبي في " المفهم "، و أما فيما بعد من البلاد فالإجماع على عدم اعتبارها، و ما ذكره بعض الفقهاء خلاف هذا فهو من تخريجاتهم هم على أقوال الأئمة أصحاب المذاهب الأربعة، و هو من قبيل التمثيل لكلمة البلد أو البلاد التي جاءت في كلامهم، و ليست منه بنصّها.
•و الحديث الصحيح حجة قاطعة في ذلك؛ فهو بمفرده ملزم للجميع ما دام ثبتت صحته، و ما دامت دلالته صريحة.
و يؤكده ما ترجم له أئمة الحديث في مصنفاتهم، و تراجمهم للأحاديث هي فقههم، فقد ترجم له:
أ - الإمام مسلم في صحيحه بقوله: باب بيان أن لكل بلد رؤيتهم، و أنهم إذا رؤا الهلال ببلد لا يثبت حكمه لما بعد عنهم).
ب - و إمام الأئمة ابن خزيمة في " صحيحه " بقوله:
(باب الدليل على أن الواجب على أهل كل بلدة صيام رمضان لرؤيتهم لا رؤية غيرهم)
ج - و الإمام الترمذي في " سننه " بقوله: (باب ما جاء لكل أهل بلد رؤيتهم)
و قال: (و العمل على هذا الحديث عند أهل العلم أن لكل أهل بلد رؤيتهم).
قال ابن حجر عن قول الترمذي هذا: (و لم يحك سواه). إشارة إلى عادة الترمذي في ذكر الأقوال المختلفة إن وجدت. و لما " لم يحك سواه " فدلّ على أنه القول الوحيد في المسألة (عند تباعد البلاد تباعد بلاد الشام و الحجاز و نحوهما).
- و لا حجة للمخالف في احتجاجه بعموم حديث " صوموا لرؤيته، و أفطروا لرؤيته "؛ إذ يدلّ على وجوب الصيام على جميع من رأوا الهلال – و هذا هو محلّ الحديث - و ليس فيه دليل على وجوبه على أهل البلاد التي لم تره، بل هو حجّة لمن لم يصوموا على رؤية البلد الآخر؛ حيث إنهم لم يروه؛ فلم يلزمهم الصيام حينئذ، و يؤيد ذلك عموم قوله صلى الله عليه و سلم: " إنما الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له ". [صحيح مسلم].
و قد ترجم له في صحيح مسلم ب (باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال و الفطر لرؤيته، و إذا غمّ في أوله أو آخره أكملت عدة الشهر ثلاثين يوما)، و قد ترجم له ابن خزيمة في " صحيحه " ب (باب التسوية بين الزجر عن صيام رمضان إذا لم يغمّ الهلال و بين الزجر عن إفطار رمضان قبل رؤية هلال شوال إذا لم يغمّ الهلال)، و كذا ترجم له ابن حبان في " صحيحه " ب (ذكر الزجر عن أن يصوم المرء اليوم الذي يشكّ فيه أمن شعبان هو أم من رمضان). و إذا كان هذا الزجر في يوم الشك فهو فيما لم ير أصلا أولى؛ فكيف يصام؟!
و القول بلزومه عندئذ يخالف الإجماع الذي ذكره ابن المنذر؛ (فقال في " الإشراف ": " صوم يوم الثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلال مع الصحو لا يجب بإجماع الأمة ").
¥