تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إن آيات التشابه اللفظي في القرآن الكريم كثيرة جداً وإن من كرم الله تعالى على عباده أن يفتح عليهم في بعض المواضع فينير لهم الدرب لتنكشف بعض أسرار التعبير القرآني ومن ذلك ما جاء في سورة "الأنعام" حيث قال سبحانه وتعالى: {والزيتون والرمان مشتبهاً وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون} [99] وقال في آية أخرى في نفس السورة: {والزيتون والرمان متشابِهاً وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} [141] فلماذا هذا الاختلاف في التعبير؟ ولنا سؤالان حول اختلاف النظم في الآيتين.

السؤال الأول: لماذا قال في الآية الأولى: {مشتبهاً وغير متشابه} وفي الثانية: {متشابِهاً وغير متشابه}.

السؤال الثاني: لماذا قال في الآيتين {وغير متشابه} ولم يقل في إحداهن: وغير مشتبه؟

وللإجابة عن هذين السؤالين نقول وبالله التوفيق: الاشتباه والتشابه لفظان متقاربان من حيث اللفظ والمعنى، وللتفريق بينهما علينا أن نقف على معنى كلٍّ منهما، فالاشتباه هو الالتباس أي أنك تقع في التباس واختلاط فلا تستطيع التفريق بين شيئين اثنين، أما التشابه فهو أن يشبه شيء شيئاً آخر في صفة أو لون أو هيئة دون أن يقع خلط بين الشيئين فنستطيع التفريق بين الشيء الأول والشيء الثاني، فإن قيل لك: فرق بين زيد وعمرو فإذا فرقت بسهولة فذاك تشابه، وإن لم تستطع فذاك اشتباه، والآن نقف مع سؤالنا فنقول: لماذا اختير في الآية الأولى مُشْتَبِهَاً وفي الثانية مُتَشابِهاً؟ ولا يهديك أخي القارئ للجواب إلا التدبر لهاتين الآيتين والوقوف مع سياق كلٍّ منهما فتعال معي لنتدبر سوياً: في الآية الأولى جاء قوله تعالى: {مشتبهاً وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون} فالآية تأمر العباد بالنظر إلى الثمر وحسب، وفي هذا إعمال لحاسة واحدة وهي حاسة النظر، أما الآية الثانية فنجد أن الأمر قد اختلف فيها ولننظر: {متشابِهاً وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} فهنا الأمر قد اختلف فهي تأمرهم بالأكل وإتيان حق الثمر يوم حصاده، وغني عن المعرفة بأن الأكل يشمل حاسة النظر إلى المأكول ثم حاسة لمس المأكول ثم حاسة شم المأكول قبل أكله ثم حاسة التذوق فهذه أربع حواس اجتمعت في الأكل، وبعد ذلك تقدير الثمار ومعرفة الجيد من الرديء لأداء حقها، وفي هذا إعمال لأربع حواس لا لحاسة واحدة، فإن رأيت مجموعة من الثمار بينها تشابه فلن تستطيع أن تميز بينها، فلن تعرف الحلو من الحامض ولن تعرف الناضج من غير الناضج ولن تعرف الجيد من الرديء، هذا إذا اقتصرت على حاسة النظر وعندئذ يحسن بنا أن نقول لك: إنك وقعت في الاشتباه، أما إن أخذتك شهوة الطعام فأقدمت ونظرت وقطفت وشممت وأكلت وتذوقت فعندئذ تستطيع أن تميز بين هذه الثمار وتعرف وجه الشبه بينها، فتقول هذه تشبه هذه في كذا دون كذا وهكذا، وعندئذ نقول لك: إنك قد أزلت الاشتباه وعرفت التشابه بين الثمار، ففي الحالة الأولى نعد الثمر مُشْتَبِهَاً وفي الثانية مُتَشابِهاً، هذا عن الفرق بين اللفظتين وعن سر مجيء كلٍّ منهما في السياق الذي جاءت فيه.

أما السؤال الثاني وهو لماذا قال في النفي: {غير متشابه} في الآيتين ولم يقل في إحداهن: وغير مشتبه كما قال في الإثبات؟

فأقول وبالله التوفيق: إن قواعد النفي تختلف عن قواعد الإثبات، وبيان ذلك أنه سبحانه وتعالى عندما قال مشتبهاً لزم من ذلك وجود التشابه فكل مشتبه متشابه، أما عندما قال متشابِهاً فلا يلزم من ذلك وجود الاشتباه فليس كل متشابه مشتبهاً، هذا في الإثبات أما في النفي وهو ما سارت عليه الآيتان الكريمتان - وأظنك أخي القارئ بدأت تدرك سر مجيء التشابه دون الاشتباه في النفي -، فإن الله سبحانه وتعالى أراد أن ينفي التشابه والاشتباه معاً فقال: {وغير متشابه} أي: وغير مشتبه كذلك، ولو قال: وغير مشتبه لم يكن نافياً للتشابه وإنما للاشتباه وحسب، وهذا ما لم ترده الآية الكريمة، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير