تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وهذه الدراسة ضرورية في سياق البحث في قضية تيسير البلاغة في العصر الحديث، هذه القضية التي مازالت الدراسات بشأنها محدودةً إذا ما قُورنت بقضية تيسير النحو العربي، ذلك أنّ الاتجاه إلى دراسة علم الأسلوب بالإفادة من معطيات علم اللغة الحديث linguistics قد طغى على الساحة الأدبية والنقدية، وغدا الاهتمام منصباً على تتبّع ما يجدّ في الدراسات الغربية بشأن الأسلوبية، وهو الأمر الذي أدى إلى الهجوم على البلاغة القديمة، والدعوة إلى البلاغة العصرية، أو علم الأسلوب.

والمنهج المتبع في هذه الدراسة قائم على دراسة الأسباب التي أدت إلى التعقيد في مسائل البلاغة العربية، ومناقشة آراء الدارسين بشأن قضية تأثير الفلسفة في البلاغة، ثمّ دراسة بعض ملامح التيسير في المصادر البلاغية القديمة، مع الإشارة إلى جهود العلماء الذين اهتموا بالتيسير وهم القزويني وابن الأثير، مع التركيز على جهود يحيى بن حمزة العلوي أحد أبرز البلاغيين الذين اهتموا بتيسير البلاغة في القرن الثامن الهجري.

أولاً: التعقيد وأسبابه في علم البلاغة:

أشار بعض البلاغيين قديمًا إلى التعقيد والغموض اللذين اكتنفا علم البلاغة بعد عبد القاهر الجرجاني، فقد ذكر القزويني في مقدّمة كتاب التلخيص أنّ مفتاح العلوم للسكاكي أعظمُ ما صنّف في علم البلاغة، ولكنّه غير مصونٍ عن الحشو والتطويل والتعقيد ()، ورأى ابن الزملكاني (651هـ) أنّ علم البيان من أجلّ العلوم وأفضلها قدرًا، ولكنّه لغموضه ودقّة رموزه استولت عليه يدُ النسيان، وألحقه القصور بخبر كان، وليس فيه من المصنّفات إلاّ القليل ()، وقال العلوي في الطراز:"إنّ مباحث هذا العلم (البلاغة) في غاية الدقّة، وأسراره في نهاية الغموض، فهو أحوج العلوم إلى الإيضاح والبيان" ()، فهذه إشارات واضحة لبلاغيين مشهورين إلى قضية الغموض والتعقيد التي تسربت إلى مباحث البلاغة.

وملاحظة هذا التعقيد في مسائل البلاغة، جعلت هؤلاء الدارسين يسجّلونه في مصنّفاتهم، وقد حرّك هذا الأمرُ هِممَهم وجعلها متوجّهة إلى التصنيف والتأليف في هذا العلم بغرض إيضاحه وتيسيره لطالبيه، وتكثير مصنّفاته لدارسيه كما هو الشأن في علوم العربية الأخرى كالنّحو واللغة، وإذا سلّمنا بهذا التعقيد الذي سلّم به بعض قدامى البلاغيين مما دعاهم إلى البحث عن وسائل التيسير والإيضاح بالاختصار والشرح، فإنّه من الواجب البحث بدايةً في أسباب هذا التعقيد الذي لحق بعلم البلاغة وقادها إلى عهودٍ وُصفت بالجمود والتكرار، وندرة الإبداع وقلّة الفائدة ()، وعند البحث في جملة هذه الأسباب فإنّنا نجدُ أنّ تأثير الفلسفة وعلم الكلام في البلاغة هو السبب الأبرز الذي عُنيت به الدراسات الحديثة أشدّ العناية ()، وقد ثارت بشأنه مناقشات لا يزال صداها موجودًا حتى الآن، ومع أهمّية هذا السبب في هذا السياق؛ فإنّ هناك أسباباً خارجية أخرى لا تقلّ أهمّية عنه كان لها أثر بيّن في قضية التعقيد الذي لحق بالبلاغة – كما سنبيّن ذلك في المبحث اللاحق - مثل نشأة البلاغة في بيئة المتكلّمين والأصوليين، وكون الأكثرية الغالبة من علماء البلاغة من غير العرب، وارتباط البلاغة بقضية إعجاز القرآن، وتراجع الأدب وعزلة العربية في العصور المتأخرة، ولا سيّما بعد القرن الخامس الهجري، ودراسة هذه الأسباب من شأنها الإسهام في الكشف عن الظروف التي رافقت تطوّر البلاغة منذ النشأة إلى عهود الازدهار والاستقرار، ووصولاً إلى عصور التراجع والتكرار.

1 - نشأة البلاغة في بيئة المتكلّمين والأصوليين:

يلحظ الدارس لتطوّر علم البلاغة منذ نشأته إلى استقراره أنّ بيئة المتكلّمين والأصوليين هي البيئة التي نشأت فيها البلاغة وترعرعت، فما من عَلَمٍ من أولئك البلاغيين الجهابذة إلاّ له ارتباط أو مشاركة أو صلة ما بعلم الكلام أوعلم الأصول، والجمهور الغالب منهم – فيما يبدو - كان على صلة واطلاع على الفلسفة والمنطق، سواء أكانت الفلسفة العامة أم الفلسفة الكلامية، ويتّفق ذلك في أدوار حياة البلاغة نشأةً وتطورًا وجمودًا ()، فالجاحظ المعتزلي (255هـ) كان فضلاً على معرفته بعلم الكلام مُطلعًا على فلسفة اليونان، وعبد القاهر الجرجاني (474هـ) متكلّمٌ يحسن طرق الجدال والمناظرة، والفخر الرازي (606هـ) حجّة عصره في الأصول وعلم الكلام، وأبو

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير