تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

التلخيص عملية قد تتجلّى في صورتين: تقليدية وإبداعية، فأمّا التقليدية فهي التي تُعنى بالنقل الأمين المركّز لمضمون النّص، أو الاستخراج المباشر لأفكار النّص الرئيسة، وأمّا الإبداعية فهي التي تُواجه النصّ وتقوّم اعوجاجه وتُضيف إليه الإضافات اللازمة ()، وقد ظهرت التلخيصات وانتشرت بصورتيها في كثير من الدراسات البلاغية بعد عبد القاهر، وإن كان قد اشتهر منها على وجه الخصوص تلخيصُ القزويني لمفتاح العلوم للسكّاكيّ، وانتشار التلخيصات بعد السّكاكيّ وعبد القاهر يدلّ على اهتمام قدامى البلاغيين بعملية التلخيص باعتبارها منهجًا ووسيلة إلى الإيضاح، وطريقة ضرورية لتبسيط مسائل البلاغة وعلومها الدقيقة.

وقد يُنظر إلى التلخيص على أنّه عمل مكرّر يقود إلى ركود العلم وجموده، ويترتّب عليه فتور همم الدارسين في البحث عن الجديد، وهو الأمر الذي انتقده ابن خلدون بشدّة وعدّه منهجًا مخلاً بالتعليم في العصور المتأخرة ()، ولكن قد ينظرُ إلى التلخيص على أنه نوعٌ من تيسير هذا العلم لتقديمه إلى الدارسين في كلّ عصر، وقد يلام أولئك الملُخِّصون على أسلوبهم الجاف لغلبة العجمة وتأثير علم الكلام عليهم، ولكنّ يبدو أنّ الذوق الأدبي في عصرهم كان ميالاً إلى هذا النوع من الأسلوب، ولذلك ينبغي ألاّ نحاسب القدماء بمقاييسنا العصرية، فروحنا الأدبية قد طرأ عليها تغيير كبير في الرؤى والأساليب والمضامين الفكرية.

ويستنتج الباحث من هذا التحوّل إلى المختصرات والتلخيصات رغبة العلماء في تيسير البلاغة على الناشئة حينما أحسّوا عزوفًا من الدارسين عن قراءة المصادر الأساسية، ويبدو أنّ هؤلاء البلاغيين فكّروا في أساليب التيسير والإيضاح، وتوصّلوا إلى أنّ تأليف المختصرات التي اختصرت أبواب البلاغة هو الأسلوب الأمثل في التيسير والتبسيط مع إضافة ما يمكن إضافته عليها من ملاحظات وتصويبات واقتراحات وشواهد جديدة، ومن هنا لم يكن التيسير اختصارًا وتهذيبًا للمطوّلات فحسب، وإنمّا هو عرضٌ جديد للموضوعات يمكّن الناشئة من استيعاب البلاغة، مع إصلاح شامل للدرس البلاغي، والسعي إلى تخليصه ممّا علق به من شوائب أدت إلى ذلك التعقيد والغموض.

(2) الشروح:

انتشرت الشروح عند البلاغيين المتأخرين الذين عُنوا بكتاب التلخيص للقزويني، فقد انكبوا على شرحه بمناهج مختلفة، وانتقد كثيرٌ من الدارسين هذه الشروح باعتبارها سببًا في جمود البلاغة وتراجعها، فقد تحدّث محمد رشيد رضا عن ذلك فذكر أنّ المتكلّفين من المتأخّرين هم الذين سلكوا بالبيان مسلك العلوم النظرية، وفسّروا اصطلاحاته كما يفسّرون المفردات اللغوية، ثمّ تنافسوا في الاختصار والإيجاز، حتى صارت كتب البيان أشبه بالمعمّيات والألغاز، ورأى أنّ من أثر فساد ذوق اللغة اختيار هذه الكتب (الشروح) حتى صارت "حواشي السّعد" (أي التفتازاني) تطبع وتنسخ، وكادت كتب عبد القاهر تمحى وتُنسى ().

وهذا الرأي المتداول على ما فيه من رؤية نقدية تقويمية لمناهج الشرّاح، فإنّ فيه من التعميم الذي لا ينسحبُ على كلّ الشروح، لأنّ هذه الشروح على ما فيها من قيود وعيوب؛ كانت وسيلة مرتبطة بظروف تلك العصور التي كتبت فيها، وإذا نظرنا إلى بعضها بعين الإنصاف فإنّنا نجد فيها من الفوائد والإضافات الجليلة، وفضلاً على ذلك كلّه كانت هذه الشروح من وسائل التيسير في تلك العصور التي لم تَعد قادرةً على فهم البلاغة من مصادرها الأساسية، ولا سيّما في كتابي عبد القاهر "الدلائل" و"الأسرار"، وليس من الإنصاف كذلك إسقاط النظريات العصرية على ما كان موجودًا في تلك العهود السابقة، قال محمود شاكر عن التفتازاني –وهو من أشهر شرّاح التلخيص-:"إنّ الرجل كان يكتب لأهل زمانه، وما ألفوا من العبارة من علمهم، وإنّ فيه من النظر الدقيق في البلاغة قدرًا، لا يستهين به أحدٌ في نفسه قدرٌ من الإنصاف" ().

وأمّا مظاهر التيسير فقد تجلّت في عناصر مختلفة يتعلّق بعضها بالمنهج، وبعضها بالموضوعات، وبعضها بالمصطلحات، وبعضها الآخر بالشواهد والنصوص، وسنتحدّث بإيجاز عن هذه العناصر لاستجلاء جوانب منها قد تساعد في معرفة تطوّر التفكير البلاغي في كتب التراث.

(أ) التيسير في المنهج:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير