تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

واتّجه بدر الدين بن مالك (686هـ) إلى تيسير البلاغة بعدما لاحظ غموضًا في كتبها الأساسية، ولا سيّما كتاب المفتاح للسكاكي، فقد قال عن كتابه المصباح الذي لخّص فيه المفتاح:"فجاء كتابًا له حظّ من التحقيق، وحسن التهذيب، في مزيد الإتقان، وجودة الترتيب، على أني لم أبلغ بمقدار لفظه حجم أدنى المطولات، ولا بالتضييق على معانيه غموض أكثر المختصرات، وسميته كتاب المصباح" ().

ومن العلماء الذين سعوا إلى تيسير بلاغة عبد القاهر وترتيبها ترتيبًا جديدًا الرازي (606هـ) الذي قال:"لما وفقني الله تعالى لمطالعة هذين الكتابين (الدلائل والأسرار) التقطت منهما معاقد فوائدهما، ومقاصد فرائدهما، وراعيت الترتيب مع التهذيب، والتحرير مع التقرير" ()، ولكنّ الرازي مع جهوده البارزة في الترتيب والتهذيب يبدو أنّه لم يوفّق في الجانب الأسلوبي لغلبة النزعة الكلامية على تعابيره، وأمّا ابن الزملكاني (651هـ) فقد اتجه إلى تبسيط دلائل الإعجاز بأسلوب أيسر من أسلوب الرازي، ولكنّه أسرف في المسائل النحوية، وقد قال في كتابه التبيان:"غير أنّه [أي عبد القاهر] واسعُ الخطو، كثيرًا ما يكرّر الضبط، فقيدٌ للتبويب، طريدٌ من الترتيب يُملّ الناضر، ويُعشي الناظر، وقد سهّل الله تعالى جمع مقاصده وقواعده، وضبط جوامحه وطوارده، مع فرائد سمح بها الخاطر، وزوائد نقلت من الكتب والدفاتر" ().

ففي هذه الأقوال من الإشارات ما يدلّ على أنّ قدامى البلاغيين قد عُنوا بقضية التيسير في مصنّفاتهم، وقد تعرّضوا لها كلٌّ بمنهجه الذي ارتضاه لنفسه، ولكنّه التيسير الذي يناسبُ عصرهم ويلبّي حاجات الناس في ذلك العصر، وبالأسلوب الذي رأوه مناسبًا لأذواقهم، وهم سواء وُفقوا في ذلك أم لا فإنّهم كانوا يكتبون استجابة لما يتطلّبه محيطهم الاجتماعي والثقافي والمعرفي، ولذلك ليس من الإنصاف عند أولئك الداعين إلى تيسير البلاغة في العصر الحديث تحميل أولئك القدماء مسؤولية ما آلت إليه البلاغة في عصرهم، ذلك العصر الذي أسموه بعصر الجمود، وقد يكون الهدف من نقدهم للبلاغة القديمة ورجالها الرغبةُ في التجديد والإبداع والتحديث، إلاّ أنّه يسيء كثيرًا للتراث العلمي القديم، وينتقص من جهود أولئك الأعلام وكتاباتهم واجتهاداتهم، ومحاولة تفريغها من محتواها، بخيره وشرّه، وغثّه وسمينه، وتكفي الإشارة هنا إلى أنّ تاريخ علم البلاغة كغيره من العلوم محكوم بالظروف التاريخية التي تحكم كلّ بيئة وعصر، ولا سيّما الظروف المتعلّقة بالأدب وازدهاره، أو تراجعه وانحصاره، ونشير هنا أيضًا إلى أن تاريخ البلاغة في أوربا مرّ بمراحل مختلفة، وقد كان للفلسفة حضورها الواضح في علم البلاغة منذ أرسطو إلى العصر الحديث، ولكنّ التطوّر العلمي والثقافي، وازدهار المناهج النقدية جعل الدارسين يتجهون إلى تجديد البلاغة، والبحث في علم الأساليب من دون أيّة إساءة إلى بلاغتهم القديمة، ونفي تراثهم وجهود علمائهم الممتدة عبر قرون طويلة ().

إنّ جمهور البلاغيين ونقاد الأدب ودارسي الإعجاز يرون في عبد القاهر المؤسّس الأول لعلم البلاغة بسماته وخصائصه المميزة، وقد كانت كتاباته المحور الأساس لأغلب الدراسات البلاغية التي جاءت بعده، وحتّى السّكاكي في نظر الدارسين لم يكن سوى ملخّص بارع لكتابي عبد القاهر (). ولمّا شاب كتابات عبد القاهر شيءٌ من الصعوبة والدقّة والعمق في أسلوبها وطريقة أدائها – وكذلك هو الشأن الغالب عند العلماء المفكّرين المؤسّسين للنظريات العلمية الرائدة – فقد عُنيت الدراسات التي جاءت بعد ذلك إمّا باستيعابها والسعي إلى تطبيق مفرداتها ومسائلها كما فعل الزمخشري في كشّافه، وإمّا بتلخيصها والسعي إلى توضيحها كما فعل الرازي في نهاية الإيجاز، وإمّا بإعادة ترتيبها وتصنيفها، وإضافة ما يمكن إضافته إليها كما فعل السّكاكي في مفتاح العلوم وكما فعل تلامذته الذين ساروا على منهاجه من بعده.

وقد تجلّت وسائل التيسير عند قدامى البلاغيين أكثر ما تجلّت في التلخيصات والشروح، مع إضافة ما يمكن إضافته إلى السابقين، وهو الأمر الذي يعين على استيعاب الدرس البلاغي، وسنتحدّث بإيجاز عن هاتين الوسيلتين لكونهما من أكثر الوسائل استعمالاً وشيوعًا بين القدماء.

(1) التلخيصات:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير