ولمعرفة تطوّر المصطلح البلاغي والاطلاع على جهود العلماء في تحديده وتيسيره اخترنا في هذا البحث مصطلح "البلاغة"، وأوردنا جملة من التعريفات لأشهر البلاغيين، وهي تمثّل البدايات الأولى للمصطلح، إلى أن تطوّر ونضج واستقر في كتب البلاغة كما هو مبيّن في الجدول الآتي:
مصطلح البلاغة أهل الاصطلاح
لا يكون الكلام يستحق اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظَه، ولفظُه معناه فلا يكون لفظه إلى سمعك أسبقَ من معناه إلى قلبك. الجاحظ (255)
توصيل المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ الرماني (386)
البلاغة كل ما تبلغُ به قلب السامع فتمكنه في نفسه كتمكّنه في نفسك مع صورة مقبولة ومعرض حسن. العسكري (395)
خصوصية في كيفية النظم وطريقة مخصوصة في نسق الكلم بعضها على بعض. عبدالقاهر الجرجاني (474)
بلوغ الرجل بعبارته كنهَ ما في قلبه مع الاحتراز المخلّ والإطالة المملّة. الرازي (606)
هي بلوغ المتكلم في تأدية المعاني حدًّا له اختصاص بتوفية خواص التراكيب حقّها وإيراد التشبيه والمجاز والكناية على وجهها. السكاكي (626)
وأما بلاغة الكلام فهي مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته. القزويني (739)
البيان عبارة عن الوصول إلى المعاني البديعة بالألفاظ الحسنة. العلوي (749)
يلاحظ من خلال الجدول السابق أنّ تعريف البلاغة قبل عبد القاهر كان قائمًا على إبراز الغاية من البلاغة، وهي في توصيل الكلام إلى قلب المخاطب والتأثير فيه، وهو ما يسمى بالإبلاغية في العصر الحديث، وأمّا مفهوم البلاغة بعد عبد القاهر فقد اصطبغ بصبغة علمية ركزّت على خصائص هذا الكلام الذي يقنع ويؤثّر في الآخرين، وأصبح مفهوم البلاغة معنيًا بخواص التركيب، والمقام الذي يُؤدى فيه وهو ما يُعرف بمقتضى الحال، ولعلّ هذه النظرة العلمية التي بدأها عبد القاهر هي التي جعلت من البلاغة علمًا له قواعده وأصوله الواضحة، فالانتقال من البلاغة الذوقية إلى البلاغة النظرية، ومن الحديث عن الأهداف إلى الحديث عن الخصائص واضح أشدّ الوضوح في تطوّر مصطلح البلاغة بعد عبد القاهر، كما أنّ الاتجاه إلى التيسير كان منصبًا على الإيجاز في تعريف هذه المصطلحات واختصارها قدر الإمكان، مع مراعاة الدقّة في اختيار الألفاظ، فقد حرصوا على أن يكون المصطلح البلاغي جامعًا مانعًا، وأن يكون ضمن دائرة علم البلاغة لا يخرج عنه.
(د) التيسير في الشواهد والنصوص:
يمثّل الشاهد القرآني أحد أبرز الشواهد البلاغية وأكثرها حضورًا في كتب البلاغة الأصلية، ولم يكتف البلاغيون بالشاهد القرآني الذي عدوه في أعلى مستويات البلاغة، وإنما اختاروا من نصوص الأدب شعره ونثره ما يكون منسجمًا مع نظرياتهم ومسائلهم البلاغية المتعلّقة بالألفاظ والمعاني، والنظم والتراكيب، وقد لوحظ أنّ مثل هذه النصوص الأدبية التي نجدها في بلاغة عبد القاهر ومن سبقه من البلاغيين والنقاد قد قلّت وانحصرت في بلاغة المتأخرين بعد السكّاكي، وسبب ذلك غلبة المادة النظرية على المادة الأدبية، ومع ذلك كلّه فقد نبه بعض البلاغيين على أهمّية العناية بالشواهد والنصوص الأدبية في تيسير الدرس البلاغي، فكان السعي إلى الإكثار منها وتحليلها، وتنويعها وتجديدها، واشتهر منهم في هذا الاتجاه ابن الأثير الذي ذاع صيته بصنيعه في كتابه المثل السائر، ثمّ تبعه العلوي الذي كان له منهج خاص في انتقاء النصوص، والعناية بها شرحًا وتحليلاً وتذوقًا.
وأشار أحمد مطلوب إلى أنّ البلاغيين المتأخرين أدخلوا نصوصًا جديدة في كتبهم، ولذلك فقد كان نمو البلاغة العربية في القديم ملمحًا من ملامح حيويتها وقدرتها على استيعاب الجديد، فضلاً على أنها لم تتوقف عند عصر الاستشهاد في الأمثلة التي ذكرتها، وإنما تجاوزته وواكبت الأدب، وفي البديعيات نصوصٌ جديدة لم تذكرها كتب البلاغة الأولى، وهي نصوص تمثل العصر الذي أُلفت فيه، وقد استخرج البديعيون منها فنونًا جديدة وهي على الرغم مما قيل فيها صورة لأدب تلك العهود ().
ثالثًا: جهود ابن الأثير والقزويني والعلوي في تيسير البلاغة:
¥