تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

بذل علماء البلاغة الأقدمون جهودًا كبيرةً في صياغة القواعد والنظريات التي تشكلّ بها علم البلاغة وتطوّر على مدى الأجيال، إلى أن أصبح من علوم العربية الأساسية التي لا يستغني عنها الدارس الراغب في اكتساب ملكة البيان والفصاحة، وموهبة فهم النصوص وإدراك أسرارها الجميلة، وبسبب دقّة مسائله، ووعورة مذاهبه فقد عُني العلماء بتيسيره للدارسين، وقد اشتهر منهم القزويني الذي يمثّل المدرسة الكلامية، وابن الأثير الذي يمثّل المدرسة الأدبية، والعلوي الذي جمع بين المدرستين، وسنتحدّث هنا بإيجاز عن أبرز الإضافات التي أضافها هؤلاء في هذا الاتجاه، مع التركيز على جهود الإمام العلوي الذي مازال منهجه - في رأينا - بحاجة إلى دراسة وبيان.

كان ابن الأثير ثائرًا على الفلسفة وعلم الكلام، وأراد بكتابه الشهير "المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر" تقويم المنهج البلاغي بالعودة إلى دراسة الأدب بنصوصه الجميلة، واعتماد الذوق حاكمًا على معرفة الجمال بدل اللجوء إلى القواعد والأحكام النظرية.

امتاز كتاب المثل السائر بخصائص ومميّزات كثيرة جعلت منه مصدرًا أساسيًا للبلاغة والنقد في القديم، وقد اقتربت مسائله إلى حدٍ ما من البلاغة والنقد الحديثين، فقد كانت نظرة ابن الأثير إلى المباحث والموضوعات البلاغية، وأسلوبه في تناولها قائمين على استخدام الذوق والتجربة الشخصية دون التسليم المطلق بالأحكام النظرية المجرّدة ()، فهو يتعامل مع النصوص تعامل الناقد والمحلّل لها، ويستثمر ذلك كلّه في تذوّق جمالها وتدريب الدارسين على معرفة المهارات البلاغية واكتسابها عن طريق معايشة الأدب لا القواعد الجافة.

وقد عُرف عن ابن الأثير افتخاره وإعجابه بنفسه، وذلك راجعٌ فيما يبدو لحرصه الشديد على الاجتهاد والإبداع في مجال البلاغة وفن الكتابة، وقد ظهر في عصر عُرف بالتبعية والتكرار لنظريات السابقين، ثمّ لسعيه الحثيث إلى التيسير والتبسيط لتلك المسائل البلاغية التي غلبت عليها مناهج المتكلّمين، قال في مقدّمة كتابه عن تلك الإضافات التي أضافها:"وقد أوردتها هاهنا وشفعتها بضروبٍ أخر مدوّنة في الكتب المتقدّمة، بعد أن حذفت منها ما حذفته، وأضفت إليها ما أضفته، وهداني الله لابتداع أشياء لم تكن من قبلي مبتدعة" ().

لقد عدّ كتاب المثل من أمّهات كتب البلاغة لأنّه درس فنون البلاغة دراستين: إحداهما: دراسة قاعدية فيها تحديد للمصطلحات مع تصحيح لأخطاء السابقين، وثانيهما: دراسة نقدية كشف فيها عن العيوب التي يقع فيها مستعملو تلك المسائل في أدبهم وكتاباتهم ().

إنّ نفور ابن الأثير من الأسلوب القاعدي الشبيه بمناهج الفلاسفة والمتكلّمين قد جعل لدرسه البلاغي مَيزة خاصّة، وذلك بالعودة إلى النصّ الأدبي وتحكيم الذوق في فهمه، فالذوق هو في رأيه وحده الكفيل بتحقيق النفع، لأنّ الدُربة والإدمان عليه أجدى للدارس نفعًا، وأهدى له بصرًا وسمعًا ()، وبهذا المنهج كان ابن الأثير أحد المجدّدين في درسه للبلاغة، وأحد الذين أسهموا في تهذيبه وتيسيره وتقريبه للدارسين في القرن السابع الهجري.

وأمّا القزويني (738هـ) فقد عُني بقراءة المصنفات البارزة في علم البلاغة مثل دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة لعبد القاهر، ومفتاح العلوم للسكّاكي، وقد لاحظ أنّها محتاجة إلى الشرح والإيضاح في بعض جوانبها، وإلى الاختصار والترتيب في بعض جوانبها الأخرى، فاتجه إلى "مفتاح العلوم" للسكّاكي لما رأى فيه من شمولية وترتيب، فقام بتلخيص الجزء الثالث منه الخاص بعلم البلاغة وسمّاه "تلخيص المفتاح"، وهو العمل الذي ذاع صيته بين الدارسين فيما بعد.

وألّف القزويني كتابهُ الإيضاح في علوم البلاغة ليكون كالشرح للتلخيص، فشرح ما أشكل، ووضّح ما كان محتاجًا إلى مزيد بيان، ورتّب فصوله ترتيبًا متقنًا، واستشهد لمسائله بالشواهد الشارحة من غير إطالة في الشرح والتفسير، وقد اعتمد فيه مصادر أخرى ذكرها في مقدّمة الإيضاح مثل الأسرار والدلائل وغيرهما ()، وهو ما جعل منه عملاً جليلاً في علم البلاغة، من حيث الترتيب والتقسيم وتنظيم المباحث، ومن حيث الاستيعاب والاستقصاء والتحليل، ومن حيث الجمع والاعتماد على أمّهات المصادر والمظان، ومن حيث كثرة التطبيقات وطريقة العرض الأدبية ().

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير