تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ويجدر بنا ههنا وقفة تعكس حقيقة الأواصر والعلاقات، هذه الوقفة جسدتها الآيات في نهاية السورة، لتقرر بعمق المحور العام التي دارت حوله، من قوله تعالى: {يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً} يجمعهم {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودّاً}، وبالمقابل {ونسوق المجرمين إلى جهنم ورداً}، فنعم الأواصر أواصر الإيمان، ميثاق شديد، وبقاء أكيد.

ـ[قبة الديباج]ــــــــ[26 - 07 - 2007, 05:00 م]ـ

** تفسير الآيات:

في هذه القصة القائمة على الحوار، تنكشف لنا ملامح من شخصية إبراهيم -عليه السلام-، فيبدو لنا الصبر والحلم والبر، وحكمته في تعامله مع جهالة أبيه، والقصص القرآني قائم على الصراع بين القيم والأفكار والأخلاق، لذلك تغيب فيه الأوصاف الجسمانية، والتفصيلات الجزئية، فليس الهدف منه التأريخ لتلك الحوادث الغابرة، بقدر ما هو رسالة وهدف وعبرة، يبدو فيها واقع المسلمين بمكة بحكم التنزيل، و {هدى وبشرى للمتقين}، بعمومهم إلى قيام الساعة.

فالله سبحانه يأمر نبيه -صلى الله عليه وسلم- بذكر قصة إبراهيم-عليه السلام- {واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقاً نبياً}، والصدّيق من أبنية المبالغة على وزن (فِعِّيل)، وهذه الصيغة مع كونها للمبالغة تطلق على المولع بالفعل ([1])، مثل: سكّير وضحّيك، ونحوه. وإطلاقها هنا على معنيين، الأول: صدقه هو، والثاني: كثرة ما يُصَدِّق به من أخبار الغيوب وآيات الله عز وجل، وكلا المعنيين متلازمان لتعقيب الصدق بالنبوة، لأن ملاك أمر النبوة الصدق الذاتي المتمثل في النبي، والصدق الفعلي المتمثل بتصديقه بآيات الله. ([2])

وقوله: {إنه كان صدّيقاً نبيّا} جملة تعليلية تعلل الاهتمام بذكر إبراهيم-عليه السلام-، وهذه الجملة معترضة بين البدل والمبدل منه، حيث إنّ (إذ) اسم زمان واقعٌ بدلاً من إبراهيم، والمراد: اذكر إبراهيم زمان قوله لأبيه.

ثم تحكي الآيات حوار إبراهيم: {إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً}، أي: لا يجلب لك منفعة ولا يدفع عنك ضراً، {يا أبت لا تعبدِ الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصياً}، أي: لا تطعه فيما يأمر به من الكفر والمعصية، وعصيّا (فَعِيل) بمعنى (فاعل)، أي: عاصياً، {إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن}، قال بعض المفسرون في الآخرة، وقال بعضهم في الدنيا، {فتكون للشيطان وليا}، أي: قريناً له في عذاب الله، فجرت الموالاة مجرى المقارنة.

{أراغبٌ أنت عن آلهتي يا إبراهيم}، أتارك عبادتها؟ فاسم الفاعل "راغبٌ" إذا تعدى بواسطة "عن"، فهو يرد بمعنى ترك الشيء والزهد فيه، {لئن لم تنته لأرجمنّك واهجرني ملياً} أي: لئن لم تنته عن عيبها وشتمها لأرجمنك، والرجم يراد به السب والشتم على قول بعض المفسرين، ويراد به الرجم بالحجارة على قول الآخرين، {واهجرني مليّا}، جاء تفسيرها على قولين: أحدهما: اهجرني هجراً طويلاً، والثاني: اهجرني سالماً قبل أن تصيبك عقوبتي.

{سلم عليك سأستغفر لك ربي} أي: سلمت من أن أصيبك بمكروه، فهو لم يأمر بقتاله على كفره، ووعده بالاستغفار، وهو لا يعلم أن ذلك محظور في حق الكافرين، {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه}، {إنه كان بي حفيا} قال المفسرون في معنى (حفيا): اللطف والرحمة والبر، {واعتزلكم وما تدعون من دون الله} أي: أتنحى عنكم وعن أصنامكم ومعبوداتكم من دون الله.

{وأدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيّاً} أي: وأعبد ربي، وأرجو أن لا أشقى بعبادته مثلما شقيتم بعبادة الأصنام، التي لا تجلب نفعاً ولا تدفع ضراً، {فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب} قال المفسرون: هاجر عنهم إلى أرض الشام، فوهب الله له إسحاق ويعقوب، فآنس الله وحشته عن فراق قومه بأولاد كرام، {وكلاًّ جعلنا نبياً} زيادة في ثواب الله لإبراهيم أن اصطفاهم للنبوة، {ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليّا}، أي ذكراً حسناً مرتفعاً، فوضع اللسان موضع الذكر، لكونه آلته التي يكون بها ([3]).


([1]) ينظر: التحليل اللغوي في ضوء علم الدلالة/ لمحمود عكاشة- ص:87.
([2]) ينظر الكشاف- سورة مريم، ص: 732.
([3]) زاد المسير لابن الجوزي - سورة مريم، بتصرف.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير