تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ـ[قبة الديباج]ــــــــ[26 - 07 - 2007, 05:06 م]ـ

** في آفاق القصة:

اختلاف البشر حقيقة فطرية، وقضاء إلهي أزلي، قال تعالى: {ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم}، وآلية التعامل مع هذه الحقيقة هي الحوار، الذي يسير وفق منهج يتم من خلاله كشف مواطن الاتفاق ومثارات الاختلاف، ويفضي إلى توظيف ذلك الاختلاف وترشيده.

والقرآن الكريم يسوق لنا حوارات عديدة، فيعرض لنا حوارات الرسل مع أقوامهم، وهو إذ يعرضها يشجب أيما شجب على الإعراض عنه، كما قال تعالى: {وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبراً كأنْ لم يسمعها كأنّ في أذنيه وقراً فبشره بعذابٍ أليم}، ويرسم لنا المنهج الحواري السليم، ويسوق لنا نماذج منه، ولنا في قصة إبراهيم -عليه السلام- مع أبيه نموذجاً من تلك النماذج.

براعة الاستهلال:

تتمثل البداية الحوارية في هذه القصة ببراعة استهلال، وحسن الانتقال على درجات الحوار، فالبراعة تتجلى أولاً في خلق جوٍّ من التكافل الوجداني في قوله: {يا أبتِ}، حيثُ "أورد إبراهيم -عليه السلام- على أبيه الدلائل والنصائح، وصدّر كلا منها بالنداء المتضمن للرفق واللين؛ استمالةً لقلبه" ([1]).

وذكر ابن عاشور في تفسيره: " قال الجد الوزير -رحمة الله-، فيما أملاه علي ذات ليلة من عام 1318هـ فقال: " علم إبراهيم أنّ في طبع أهل الجهالة تحقيرهم للصغير كيفما بلغ حاله في الحذق، وبخاصة الآباء مع أبنائهم، فتوجه إلى أبيه بخطابه بوصف الأبوة، إيماء إلى أنه مخلص له النصيحة" ([2])

الدرجة الأولى: إثارة الشك حول قضية الحوار:

ومن هذا النداء المفعم بمثيرات العواطف الإنسانية، ينطلق إبراهيمُ -عليه السلام- في حواره، ليصعد به إلى أول درجة تكفل له رضوخ الطرف المقابل، وهذه الدرجة هي إثارة الشك حول القضية التي يقوم عليها الحوار، تقوم إثارة الشك هذه على الاستفهام {لم تعبدُ ما لا يسمع ولا يبصرُ ولا يغني عنك شيئاً}، وفي ذلك من التلطف والأدب مع أبيه، إذ أنّ الإجابة أوضح من أن يؤتى بالاستفهام من أجلها، ويصلح أن ترد هذه الحقيقة في سياق خبري، لا يتأتى لأبيه آزر إنكارها، في نحو: "أنت تعبدُ ما لا يسمع ولا يبصرُ ولا يغني عنك شيئاً"، غير أن مجيء الاستفهام هنا تضمن معنى زائداً وهو الإنكار، ومنه يتم الانتقال إلى درجة الحوار التالية، ولو كان السياق خبرياً فإنه لا يعدو تقرير أمرٍ لا يحتاج إلى تقرير لوضوحه وعلانيته.

ومضة:

في قوله: {ما لا يسمعُ ولا يبصرُ} خص السمع والبصر لكونها أبرز الحواس في التواصل والإدراك، وفي تعقيبه {ولا يغني عنك شيئاً}، تأكيد وتقرير للنتيجة المرتبة على نفي السمع والبصر، وفي هذا مراعاة لحال الطرف المقابل، فإن هبوب عاصفة الشك في ذهنه، تشغله عن استنباط النتائج المنطقية التي يفضي إليها الكلام، لذلك يكشفها الطرف الأول ويجليها له.

الدرجة الثانية: أهمية العلم في الحوار:

ويتابع إبراهيمُ -عليه السلام- {يا أبتِ إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطاً سوياً}، في أسلوب يكتنفه الترفق والتلطف، يصدرّه بـ {يا أبتِ}، كما أسلفنا، ثم يعقبه بالخبر المؤكد بـ"إنّ"، و "قد"، ليثبت مجيء العلمِ له، وهو في ذلك لا يدعي العلم المفرط، وإنما قال: {من العلم} فمن التبعيضية هنا تشف عن هيأة التواضع وخفض الجانب التي كان عليها إبراهيمُ -عليه السلام- مع أبيه، كما أنّ مجيء الخبر المؤكد بمجيء العلم له، يشف أدباً من آداب الحوار، حيثُ إنه لم ينسب الجهل لأبيه، وإثبات العلم يخلق جوًّا من الطمأنينة في نفس الطرف المقابل، فأصل الدعوة قائمٌ على نور العلم المتمثل بمعرفة الحق، واليقين المتمثل في سلامة الفطرة، وفي ذلك "دفع ما يخالج عقل أبيه من النفور عن تلقي الإرشاد من ابنه" ([3]).

وفي قوله: {جاءني من العلم} أدب مع الله عز وجل، فلم ينسب العلم إلى نفسه، وإنما اعترف بمجيئه وإتيانه من الله عز وجل، وهذه استجابة من الله لخليله إذْ قال: " {رب هبْ لي حكماً}، والمراد بالحكم العلم والفهم" ([4]).

فائدة:

في التعبير بـ {جاءني من العلم} إشارة إلى أنّ العلم نعمة وفضل من الله يؤتيه من يشاء، وقد ذكر ابن حزمٍ: "واعلم أن كثيراً من أهل الحرص على العلم، يجدون القراءة والإكباب على الدروس والطلب، ثم لا يرزقون منه حظّاً، فليعلم ذو العلم أنه لو كان بالإكباب وحده، لكان غيره فوقه، فصح أنه موهبة من الله تعالى، فأي مكان للعجب ههنا، ما هذا إلا موضع تواضع وشكر لله تعالى، واستزادة من نعمه، واستعاذة من سلبها" ([5]).

والمعصية من أسباب سلب هذه النعمة والحرمان منها، قال ابن القيم: "وللمعاصي من الآثار القبيحة المذمومة، المضرة بالقلب والبدن في الدنيا والآخرة، ما لا يعلمه إلا الله، فمنها: حرمان العلم، فإن العلم نور يقذفه الله في القلب، والمعصية تطفئ ذلك النور" ([6]).


([1]) فتح القدير للشوكاني- سورة مريم:42.
([2]) التحرير والتنوير لابن عاشور- سورة مريم، ص:2602.
([3]) المرجع السابق.
([4]) فتح القدير- سورة الشعراء:83.
([5]) الأخلاق والسير لابن حزم- فصل: "أدواء الأخلاق الفاسدة ومداواتها"، ص:68.
([6]) الجواب الكافي لابن القيم الجوزية، ص:34.
¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير