تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

5. قال تعالى: (قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) , لقد وردت هذه الآية الكريمة في سياق المنظرة أو الحجاج الديني بين الرسول صلى الله عليه وسلم ومشركي قومه والمعنى الذي يراد بها هو وصف هؤلاء المشركين بالضلال غير أن الآية قد سلكت في تأدية هذا المعنى مسلكاً تعريضياً هو أقدر على الإقناع من مسلك التصريح أو التعبير المباشر هذا المسلك هو ما يتمثل في قوله سبحانه وتعالى على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) , ولتوضيح هذا المسلك وتجلية قيمته الفنية نسوق هذا المثال التوضيحي:

لو كنت تعتقد صواب رأيك في قضية من القضايا وقلت لمن يخالفك في هذا الرأي أنت مخطئ فإن هذا القول دون شك سوف يغضبه, وربما يحفزه غضبه هذا إلى التمادي في الباطل ويجره إلى مزيد من الجدل والمراء الذي يسد نوافذ فكره ويطمس بصيرته ويعميه عن استبانة وجه الصواب أما إذا قلت له لا شك أن أحدنا مخطئ فإن هذا القول الذي لا يغضبه ولا يفتح أمامه سبل المراء سوف يدعوه إلى مزيد من التفكير والموازنة بين الرأيين ومن ثم يكون هذا القول الأخير أقدر من سابقه على إقناعه بصوابك وإلزامه أو إفحامه بحجتك .. ولعل هذا المثال يلقي بعض الضوء على المسلك التعريضي الذي آثرته الآية الكريمة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يصرح بمن من الفريقين على هدى ومن منهما في ضلال مبين ولكن سوى بين الفريقين في ترديد حال كل منهما بين الهداية والضلال أي أنه جعل كل من الهداية والضلال بمثابة احتمال ليس أحد الفريقين بأحق به من الآخر, غير أن هذه التسوية بين الفريقين في الآية الكريمة (المعنى الظاهر) نقود مرتكزة على خزائن السياق إلى إدراك الفصل الحاسم بينهما والوقوف على أن المؤمنين – تحديداً – هم فريق الهداية وأن هؤلاء المشركين هم فريق الغواية والضلال (المعنى التعريضي) لقد أفصح السياق قبل هذه الآية عن سفه هؤلاء المشركين وزيف عقائدهم الضالة فقد عبدوا آلهة من دون الله لا تملك لنفسها شيئاً فضلاً من أن تملك لهم ضراً أو نفعاً .. بعد ذلك يتوجه السؤال على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هؤلاء المشركين (قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) , وهو سؤال تقريري غرضه حملهم على الإقرار بأن آلهتهم التي يعبدونها لا تملك مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وأنه لا رازق لهم سوى الله عز وجل.

في ظل هذا السياق تتجه دلالة التعبير نحو المعنى التعريضي فكأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لهؤلاء من خلال هذا التعبير إذا كنتم لا تملكون إزاء قضية الرزق الإقرار بما سلم به من نسبها إلى الخالق وحده عز وجل فلماذا عبدتم من دونه آلهة لا تضر ولا تنفع؟ , ومن منا إذن على هدى؟ , ومن منا في ضلال مبين؟ , يقول الزمخشرى عند تفسير هذه الآية: وهذا الكلام المنصف الذي كل من سمعه من موالٍ أو منافٍ قال لمن خوطب به: قد أنصفك صاحبك, وفي ذكر هذا التعبير بعد ما تقدمه من عناصر السياق دلالة غير خفية على من هو من الفريق على الهدى ومن هو في الضلال المبين, ولكن التعريض أفضل بالمجادل إلى الغرض وأهجم به على الغلبة مع قلة شغب الخصم (الكشاف ص 3/ 259 بتصرف).

6. قال تعالى: (وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونِ* إِنِّي إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ) , فهذا الداعية الواعي استخدم أفضل الأساليب لكي يقنع هؤلاء المشركين بعقيدة التوحيد, حيث لم يقنعهم ولم يوجه لهم الخطأ مباشرة حتى لا يستثير غضبهم ولجاجهم .. ولكنه عرض بهم تعريضاً فوجه الكلام إلى نفسه (وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) , وهذا هو الكلام الظاهر ومعناه تعريضاً وما لكم لا تعبدون الذي فطركم وقد ساق في كلامه الحجة والدليل والبرهان مع وجوب عبادته وهى الخلق, فمن خلق فهو الأجدر بالعبادة, ولذلك ساق لهم كلاماً متضمناً الحجة: ما الذي يمنعني من أن أعبد الذي خلقني؟ , هل يمنع ذلك عقل أو منطق؟ , كلا والله بل العقل والمنطق يقول أن الذي خلق هو وحده المستحق للعبادة ثم استرسل هذا الداعية الناجح في تعريضه بهؤلاء المشركين: (أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونِ) , ومعلوم للجميع من الذي يتخذ آلهة من دون الله لا تنفع ولا تضر ثم قال: (إِنِّي إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ) , أي إن اتخذت آلهة من دون الله فإنني في ضلال مبين ومعلوم أيضاً للجميع أن المشركين هم الذين يتخذون آلهة من دون الله وأن هذا الداعية رجل موحد لا يعبد إلا الله, إذن ظهر المعنى التعريضي للجميع أن المشركين هم في ضلال مبين لكن هذا الداعية الواعي لم يصرح بنسبتهم إلى الضلال المبين لعدم إشعال غضبهم الذي يؤدى إلى شدة لجاجهم وسوء مرائهم وجدالهم وتفجر العناد في قلوبهم فيحملهم ذلك على رد الحق.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير