خُذ مثلاً: قول ضابئ بن الحارث البرجمي، من جملة أبيات قالها وهو حبيس بالمدينة، حبَسه عثمان بن عفان لإثم اقترفه؛ وذلك: أنه استعار كلباً من بني نهشل، ولمّا طالبوه به، أبى. فأخذوه منه عُنوة، فهجاهم هجاء مُقذعاً. فحبسه عثمان بن عفان لهذا الهجاء. ماذا قال ضابئ بن الحارث البرجمي؟ قال:
ومَن يَكُ أمسى بالمدينة رَحْلُه
فإنّي وقيّارٌ بها لَغَريبُ
الرّحْل هو: المنزل أو المأوى. وأما "قيّار"، فقالوا: إنه اسم فَرس أو جَمل للشاعر. وهناك من يقول: إنه: اسم غلام له، أي: خادم له.
المعنى: يريد أن يقول: أنّ من أمسى بالمدينة ناعماً هانئاً فقد حسُنت حالُه، وساءت حالي بها، لأنّي ودابّتي غريبان في هذا الحَبس. إذاً، ليس قوله:
"فإني وقيار بها لغريب"
ليس ذلك جواب الشرط، لأننا في أوّل البيت عندنا أداة شرط:
"ومن يَكُ أمسى بالمدينة رَحْلُه"
أداة الشرط "مَن"، أو اسم الشرط "مَن"، والجملة الشرطية "يَكُ أمسى بالمدينة رَحْلُه"، والجواب تقديره: مَن يَكُ أمسى بالمدينة رحلُه، فقد حسُنت حالُه، لأنّه يقيم في منزِله، أو في المأوى الذي يعيش فيه. وساءت حالي، لأني غريب، وقيّار -حِصاني أو جملي- غريب بها. فيكون إذاً:
"فإنّي وقيّار بها لغريب"
تعليل لجواب الشرط المحذوف؛ كأن التقدير: ومَن يَكُ أمسى بالمدينة رحلُه، فقد حسُنت حاله، وساءَت حالي، لأنّي وقيّار بها لغريب.
الشاهد هنا في قول الشاعر:
"فإنّي وقيّار بها لغريب"
حيث حَذفَ المسنَد من الثاني لدلالة الأوّل عليه؛ والتقدير: فإنّي بها لغريب، وقيار كذلك.
وسرّ الحذف هنا: دلالة المذكور عليه. التقدير مرة ثانية: فإنّي بها لغريب وقيّار كذلك، فحذَف خبر "قيّار"، لدلالة المذكور في الجملة الأولى عليه، وهو قوله: "لغريب"؛ والمقام هنا يقتضي الحذف.
نحن قلنا: إنّ في كلِّ حذف في الكلام البليغ لا بدّ من توفّر شرطيْن:
الأوّل: أن يكون هناك مقتضى ومقام يطلب هذا الحذف.
الثاني: أن يكون هناك دليل على المحذوف.
أمّا الدليل على المحذوف، فإنّ كلمة "غريب": خبر إنّ، دليل على المحذوف من خبر "قيار"، المقام هنا يقتضي الحذف لماذا؟
لأنّ الشاعر هنا ضيّق الصدر، متألمٌ ألماً نفسياً شديداً من الحبس الذي هو فيه؛ إذاً المقام هنا مقام ضَجر وضِيق وألَم، وهذا يناسبه: الحذف وعدم التطويل في الكلام. ويمكن أن يضاف إلى ذلك: أنّ الحذف قد حافظ على الوزن العروضيّ للبيت. ونحن قلنا: إنّه لا مانع من اجتماع أكثر من غرض واحد في الشاهد الواحد. وقوله: "لَغريب": خبر إنّ. قد تقول لماذا لا نجعل "لغريب" خبراً لـ"قيار"، وأنّ خبر "إنّ" هو المحذوف، ويكون من الحذف من الأوّل دلالة الثاني عليه؟ نقول: ذلك لا يصحّ، لماذا؟
لقد حكَمنا بأنّ "لَغريب": خبر إنّ قولاً واحداً، لا يجوز أن يكون خبراً لـ"قيار"، لأنّ "قيار" مبتدأ، ولا تَدخل اللاّم على خبر المبتدإ في فصيح الكلام، إلاّ إذا كان منسوخاً، كما في "إني بها لَغريب".
فنقول: "إني ... لَغريب" خبر لـ"إنّ"، ولا يجوز أن يكون خبراً "لقيّار"، لأنه مبتدأ، ولا تدخل اللاّم على خبر المبتدأ في فصيح الكلام، إلاّ إذا دخلَت عليه أداة ناسخة، كما في "إنّي بها لَغريب"، فـ"لغريب" إذاً تعيّنت أن تكون خبراً للأوّل. وأمّا خبر "قيار" فإنّه محذوف؛ وبذلك يكون "وقيار" كذلك مِن عطف الجُملة على الجملة.
ومن الملحوظ هنا في الدِّقّة الشعرية: أنّ الشاعر لم يقل: فإنّي بها لغريب وقيّار. أي: لم يستَوْف خبر "إنّ" قبل أن يأتي بـ"قيّار"، لم يقل: فإنّي بها لغريب وقيّار، وكان في إمكانه ذلك، بل قَرن بين نفسه وبين "قيّار": "فإني وقيّار"، ثم ذكَر لفظ الغُربة متأخراً بعد ذلك، لماذا؟ لكي يُبيِّن شدّة ألَم هذه الغربة عليه، حتّى إنّ جَمله وفَرسه أحسّها، وكان يشاركه الألم، ويَشعر بشعوره. فهذا التقديم -تقديم قيّار- قبل استيفاء "إن" لخَبَرها له مَقصد في التسوية بينه وبين جَمله في الإحساس بآلام الغُربة وأحزانها.
¥