تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وعلى هذا النمط من الحذف أيضاً: قول الشاعر عمرو بن امرئ القيس الخزرجي، عندما احتكَم إليه الأوس والخزرج، في دِيةٍ لعبد يقال له: بُجَير، كان قد فَضّل سيّدَه مالكاً من الخزرج على الأوس، فقتلوه. فطلَب مالك بتسليم القاتل له ليَقتله في عَبده، أو أن تُدفع دِية حرٍّ في مقابل قتْل عَبده، فقال عمرو بن امرئ القيس الخزرجي عدّة أبيات عندما احتكموا إليه، منها هذا البيت:

نحن بما عندنا وأنتَ بما

عندك راضٍ والرأيُ مختلِفُ

إذ التقدير: نحن بما عندنا راضون، فحُذف "راضون" -خبر "نحن"- من الأوّل، لدلالة الثاني عليه، وهو: "وأنت بما عندك راض"، عكس بيت ضابئ بن الحارث البرجمي. فضابئ بن الحارث البرجمي حَذف من الثاني لدلالة الأوّل، وهنا حُذف من الأول لدلالة الثاني عليه؛ إذِ التقدير: نحن بما عندنا راضون، وأنت بما عندك راض. فحَذف المسنَد من الجملة الأولى لدلالة ذِكره في الثانية عليه. والحَذف هنا يحقِّق الأغراض العامّة الثلاثة في كلّ حذف، إلى جانب غرض خاص هنا، وهو: ضِيق صدر المتكلّم -وهو الشاعر- لعدم إذعان الفريقيْن للرأي الذي ارتآه، وأيضاً للمحافظة على الوزن الشعري.

إذاً، الضِّيق هنا أيضاً هو الذي اقتضى حذْفَ خبَر المبتدإ الأوّل.

ومِن حذْف المسنَد أيضاً: قولُ المتنبِّي:

قالتْ وقد رأتِ اصفِراري مَن به

وتنهّدتْ فأجبتُها المتنهِّدُ

فقد سألَتْه حبيبتُه متجاهلة سببَ ما أصابه من اصفرار وشحوب، وتنهّدتْ لهوْل ما رأتْه من اصفراره وشحوبه، فأجابها: بأنّها هي السبب في ذلك. وأمّا "مَن به"، فالمراد: مَن المطالب به، ومَن المسؤول عن هذا الاصفرار الذي به؟ ولذلك كان تقدير الجواب: "المُتنَهِّد" هو المسؤول عن ذلك،؛ فيكون من حذف المسند. أو أنّ "مَن به" تقديره: مَن فعل به ذلك؟ فيكون تقدير الجواب: فَعل به ذلك: المتنهِّدُ؛ فيكون أيضاً من حذف المسنَد. والحذف هنا أيضاً للاحتراز عن العبث في ذِكْره، لوجود القرينة الدالة عليه، ولضيق المقام بسبب ما يعانيه من ألمٍ نفسي، أو أيضاً قد يكون لمراعاة الوزن.

فيتحقّق هنا عدّة أغراض: الإيجاز، إثارة شعور المتلّقي وفكْره ليقدِّر المحذوف، عدم تمدّد العبارة وثِقلها -هذه أغراض عامة في كلّ حذف-، الاحتراز عن العبث في ذِكره لأنّ القرينة تدلّ عليه، ضِيق المقام بسبب ما يُعانيه من الألم النفسي، مراعاة الوزن. كلّ هذه أغراض سَواء كانت عامة أو خاصة، يمكن أن تجتمَع هنا في حذف المسنَد في هذا الكلام.

ومِن الحذف للاحتراز عن العبث لوجود القرينة الدّالة: قوله تعالى في سورة (الطلاق): {وَاْللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ ارْتَبْتُم فَعْدَتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ}.

فالتقدير: واللاّّئي لم يحِضن كذلك، أي: عدّتهن ثلاثة أشهر؛ وهذا التقدير على وجْهٍ في الآية. وهناك وجْه آخَر فيها: أن تكون مِن حَذف المسنَد إليه والمسنَد معاً، لدلالة الكلام السابق عليها، ويكون التقدير: واللائي لم يحضن فعدّتهن كذلك. يعني: التقدير الأوّل: واللائي لم يحضن كذلك؛ فيكون المحذوف المسنَد. وقد يكون المحذوف المسنَد والمسنَد إليه، ويكون التقدير: واللائي لم يحِضن فعدّتهن كذلك؛ فتكون "عدّتهن": مبتدأ، و"كذلك": خبر المبتدإ، والجملة: خبر المبتدأ الأوّل، وهو: {اللاَّئِي}.

وقد يدلّ حذْف المسند إليه من الكلام على ترْكه، وازدرائه، واحتقاره، وسقوط درجته عن الذِّكر، كما في قوله -جلّ شأنه- في سورة (الرعد): {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بَِمَا كَسَبَتْ} فـ"مَن" هنا: مبتدأ لم يأت خبرُه، {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بَِمَا كَسَبَتْ} فـ"مَن": اسم موصول مبتدأ، خبره محذوف، والتقدير: أفمن هو قائم على كلّ نفس يرعاها ويَحرُسها -وهو: الله سبحانه وتعالى- كمن ليس كذلك؟ فقد حُذف: "كمن ليس كذلك"، لازدرائه وترْكه، وأنّه ليس جديراً بأن يُذكر في الكلام.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير