تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وحذْف المبتدإ وبقاء الصفة-، صار الكلام: {لاَ تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ}. هذا احتمال قال به البلاغيّون.

وهناك احتمال آخَر: أن يكون المحذوف هو: المسند إليه وليس المسنَد، والتقدير: ولا تقولوا: "الله، والمسيح، وأمّه: ثلاثة". فيكون المحذوف: "الله، والمسيح، وأمّه"، ويكون الذي معنا هو الخبر، والمحذوف هو المسنَد إليه. وعلى هذا التقدير: لا تقولوا: "الله والمسيح وأمه: ثلاثة"، معناه: أي: لا تعبدوهم كما تعبدون الله، ولا تسوُّوا بينهم في الصفة والرُّتبة؛ وذلك مأخوذ من قولهم إذا أرادوا التسوية بين اثنيْن: "هما اثنان" -أي: متساويان في الرتبة-، وإذا أرادوا إلحاق واحد باثنيْن قالوا: "هم ثلاثة" أي: متساوُون في الرتبة.

وهناك قول آخَر ضعيف في تقدير الآية، يؤدِّي إلى الكفر؛ قد قيل: إنّ التقدير في الآية: ولا تقولوا: آلهتنا ثلاثة. بمعنى: أنّ المحذوف هو "آلهتنا"، وأنّ {ثَلاَثَة} هو المسنَد المذكور. نحن قلنا: لا تقولوا: "في الوجود آلهة ثلاثة"، وهذا تقدير جائز.

وهناك تقدير آخَر: أن يكون المحذوف هو: المسنَد إليه، والتقدير: ولا تقولوا: "الله والمسيح وأمه: ثلاثة" أي: لا تسوُّوا بينه وبينهم. أمّا التقدير: ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة، فهو يؤدّي إلى خطإ كبير في العقيدة،؛ وهذا يبيّن خطورة دراسة البلاغة، لأنّ تقدير الأشياء في المعاني إنّما يرجع إلى المعاني الصحيحة، وأنّ أيّ خطإ في التقدير قد يمسّ أمراً من أمور العقيدة. فلماذا كان التقدير: ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة، كان قولاً فاسداً، وفيه خطأٌ كبير؟ يتبيّن لك ذلك من أنك إذا سلّطت النفي، لا يتوجّه النفي أو النهي إلى أحد طرفيْها -أي: إلى المسند أو المسند إليه-، وإنما يتوجّه النفي أو النهي إلى الحُكم القائم بين الطرفيْن. هذه قضية ثابتة.

فإذا قلت: "ليس زيد بمنطلق"، فأنت لم تنفِ زيداً، ولم تنفِ الانطلاق، وإنّما تنفي إثبات معنى الانطلاق لزيد؛ وهذا هو الحُكم. وإذا قلت: "ليس زيد النحوي عاقلاً"، فأنت لم تنفِ عن زيد كونه نحوياً، بل بالعكس، أنت أثبتَّ له أنه نحويّ، وإنما نفيت عنه إثبات كونه عاقلاً. وإذا قلت: "ليس أمراؤنا ثلاثة"، فأنت لم تنفِ أنّ لنا أمراء، بل أوجبت ذلك وأثبتّه، وإنما تنفي أن تكون عِدّتهم ثلاثة. فإذا قلت: "ليست آلهتنا ثلاثة"، فأنت لم تنفِ وجود الآلهة، بل أوجبت ذلك وأكّدتَه، وإنمّا نفيت أن يكون عَددهم ثلاثة؛ وهذا واضح، وفيه ما ترى من الفساد.

أمّا قولنا: "ليس لنا آلهة ثلاثة"، أو "ليس في الوجود آلهة ثلاثة"، فإنه نفي لأن تكون لنا آلهة ثلاثة، أو نفي لأن يكون في الوجود آلهة، ولذا لا يصحّ في مِثله أن تقول: "ليس لنا أمراء ثلاثة، وإنما هم أربعة، أو هم اثنان"، هذا كلام فاسد، وهو بخلاف قولك: "ليس أمراؤنا ثلاثة، وإنما هم أربعة، أو اثنان"؛ فهذا كلام صحيح.

فتأمّل ذلك! فإنّه ملخّص من كلام شريف للإمام عبد القاهر الجرجاني في "دلائل الإعجاز". وإذا أحسنتَ التّدبّر والقياس، علمتَ بعد الذي ذَكرناه: وجْه الفساد في قولهم في قراءة: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرُ ابْنُ اللّهِ} -بحذف تنوين {عُزَيْرُ} -: "إنّه جاء على حذْف المسند، والتقدير: عزير ابن الله معبودنا". هذا تقدير فاسد، وذلك من حيث أفادت العبارة إثبات المسنَد إليه، وهو: أنّ عُزير ابن الله، وخروجه من حدّ النفي كما يَخرج زيد النحوي من حيِّز النفي في قولنا: "ليس زيد النحوي عاقلاً"، فزيد النحوي ثابت، والمنفيّ عقْله، وإنما يتسلّط النفي في ذلك كلّه على النسبة والحُكم، ومِثله: أنك تقول: "ليس زيد بن علي حاضراً"، فتنفي حضوره فقط، ولا تنفي كونه ابن عليّ، بل تعترف بذلك.

وكذلك الحال في الآية التي معنا؛ لأنّ قوله: {ابْنُ اللهِ} صفة لعُزير، وحُذف التنوين من {عُزَيْر} كما يُحذف من زيد في قولك: "زيد بن علي"، فالإنكار لا يتّجه إلى الصفة في الآية، وإنّما يتّجه إلى الخبر؛ هذا ما قالوه، وهو فاسد، وفيه ما ترى من الفساد. والوجه الصحيح في الآية: أن يكون التنوين مُراداً، وإنّما حُذف لالتقاء الساكنَيْن، كقراءة: {قُلْ هُوَ اللّهُ أحَدُ * اللَّهُ الصَّمَدُ}: {أَحدُ}، بحذف التنوين إذا وصلت، حتى لا يلتقي الساكنان بحذف التنوين من: {أَحَد}. وكذلك قول أبي الأسود الدُّؤلي:

فألفيْتُه غير مستعتَب

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير