ـ[هيثم محمد]ــــــــ[23 - 08 - 2007, 02:39 م]ـ
تابع أغراض حذف المسند: الأغراض الخاصة
قد يُحذف المسنَد تكثيراً للفائدة في الكلام، كيف يتحقّق ذلك؟ قالوا بأنْ يحتمل الكلام بحذْف المسنَد أن يكون هو المحذوف، أو أن يكون المسنَد إليه هو المحذوف، فيَحتمل الكلام أكثر من وجْه. يعني: تكثير الفائدة يَحدث عندما يكون معَنا حذْف يَحتمل أكثر من تقدير، ويَحتمل أكثر من وجْه إعرابي؛ بذلك يكون هناك وفرة في المعنى، وغزارة في الدلالة، وهذه سِمة من سِمات الكلام الجيّد الذي يَحتمل الأوجه الكثيرة، والمعاني الغزيرة.
وإليك بعضَ الشواهد ممّا يمثِّل تكثير الفائدة بالحذف:
فقد قال الله -سبحانه وتعالى- إخباراً عن سيِّدنا يعقوب، لمّا أخذ إخوة يوسف يوسفَ ليلعب معهم، وأضاعوه، قال: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}. الشاهد في قوله تعالى: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}، لأنّ "صبْر جميل" يحتمل أن يكون التقدير: فأمري أو حالي صبر جميل؛ فيكون من حذف المسند إليه، فلا شاهد له معنا. أو يكون التقدير: فصبر جميل أفضل، وأجمل، وأليَق بي.
قال البلاغيّون: التقدير الأول -وهو: حذف المسند إليه- أولى، لأنّه أنسَب بحديث يعقوب عن نفْسه، فيكون حذف المسند إليه هنا أولى وأرجح.
وممّا يحتمل أمريْن في التقدير فتكثرَ فيه الفائدة أيضاً: قول الله -سبحانه وتعالى- في أوّل سورة (النور): {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا}، يُحتمل أن يكون التقدير: هذه سورة أنزلناها، فيكون من حذف المسند إليه، وأن يكون التقدير: فيما أوحينا إليك يا محمد سورة أنزلناها، فيكون من حذف المسنَد؛ وهنا تكثر الفائدة، لأنه مع التقديرات المختلفة يَختلف المعنى، وإن كان لا يتناقض.
ومن ذلك أيضاً، ممّا يَحتمل أكثر من وجْه في تقدير المحذوف، فتكثر به الفائدة: قوله -جلّ شأنه-: {وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لِئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لاَ تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ}؛ فالشاهد في قوله تعالى: {طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} يحتمل أن يكون التقدير: طاعتكم طاعة معروفة، فيكون من حذْف المسنَد إليه؛ وهذا في شأن المنافقين، لأنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، كأنه يقول: طاعتكم طاعة معروفة، يعني: طاعة نفاق، وطاعة ظاهرية، فلا تظنّوا أنّكم بقولكم بأفواهكم ما ليس في قلوبكم تنطلي علينا طاعتكم، أو تَخدعوننا به. ويُحتمل أن يكون التقدير: الذي يُطلب منكم طاعة معروفة، كطاعة المؤمنين الذين يتطابَق فيهم باطن أمْرهم وظاهره، فيكون حينئذٍ من حذف المسنَد إليه أيضاً. أو أن يكون التقدير -وهذا تقدير ثالث-: طاعة معروفة كطاعة المؤمنين أولى بكم، فيكون مِن حذْف المسند.
فأنت قد رأيت أنّ تقدير المسند إليه المحذوف يَحتمل تأويليْن أو تقديريْن، ويَحتمل وجهاً ثالثاً وهو: أن يكون المحذوف هو المسنَد، وفي كلٍّ تجِد معنًى مغايراً، وإن كان غير مناقض للمَعنى الأول.
ومِن هذا القبيل أيضاً، ممّا يَحتمل أكثر من وجْه فتَكثُر فيه الفائدة، وهو من أخصَب وأدقّ ما نوقش في باب حذْف المسند الذي يحتمل فيه الحذف أكثر من وجْه: قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهَ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَلاَ تَقٌُولُواْ ثَلاَثَةٌ انْتَهُوْا خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ}.
وقف البلاغيون أمام قوله تعالى: {وَلاَ تَقٌُولُواْ ثَلاَثَةٌ}، وقالوا: إنّه يجوز في الآية الكريمة أن يكون المحذوف هو المسنَد، ويكون التقدير: لا تقولوا: لنا آلهةٌ ثلاثة. أو يكون التقدير: لا تقولوا: في الوجود آلهة ثلاثة. فيكون المحذوف هو المسنَد، وهو: "لنا"، أو: في الوجود، وتكون الجملة مكوّنة من مبتدإ هو: "آلهة"، وصِفة هي: قوله: {ثَلاَثَةٌ}، وخبر مقدّم هو: "لنا"، أو: في الوجود، ثم حُذف الخبر. وحَذْف الخبر مطّرد في كلّ ما معناه التوحيد، مثل "لا إله إلاّ الله"، أي: لا إله موجود إلاّ الله، فحُذف الخبر، ثم حُذف الموصوف وهو المبتدأ، وهو "آلهة". وحذْف الموصوف أيضاً واقع في كلام العرب، فصار الكلام بعد حذفيْن -بعد حذْف الخبر،
¥