ـ[أحمد الغنام]ــــــــ[27 - 08 - 2007, 09:13 ص]ـ
قبس من جوامع الكلم ـ قصد في اللفظ، وبلاغة في المعنى
إبراهيم محمود
إن المستقرىء لأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم سيقف على مزيّة للنبي لا تكون لغيره، فهي من سمات البلاغة النبوية التي هي سبيل لإدراك حقائق الشريعة بلسان عربي مبين، هذه السمة هي اجتماع كلامه وقلّته مع غزرة معناه وإحاطته وشموله وهي ما يطلق عليها العلماء: جوامع الكلم.
وسنقف في هذه العجالة على عدد من أحاديثه صلى الله عليه وسلم تعد أركانا للشريعة بما اشتملت عليه من اتساع المعنى وإحكام الأسلوب مع اجتماع الكلام وقلّة الألفاظ.
(1) ـ "عن أبي رقيّة تميم بن أوس الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الدين النصيحة قلنا: لمن، قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" (رواه مسلم).
لعلّ هذا الحديث من الأحاديث الكليّة الجامعة لحقوق الله ورسوله، وكل هذا مجموع في لفظ النصيحة، والنصح لغة الخلوص من الشوائب، والعسل الناصح الخالص وقيل: النصح الالتئام والجمع، ولا جرم أن الناصح يريد الخلاص والالتئام للمنصوح وفي قول النبي "الدين النصيحة: إجمال يدل على أن جلّ الدين وعماده قائم على النصيحة فهذا مثل قوله: "الحج عرفة" و"الدعاء هو العبادة" وأشباه ذلك.
"قلنا: لمن" واللام هنا للاستحقاق أي: من يستحقها؟ فأجابهم النبي "الله" وهي كلمة جامعة لحق الله في الواجب والمستحب، وجامعة لمفهوم الإيمان بربو بيته وألوهيته وأسمائه وصفاته.
وأما النصيحة لكتاب الله سبحانه فبالإيمان بأنه كلام لله وتنزيله، لا يشبهه شيء من كلام الناس، والكتاب هنا القرآن ومن حقه تلاوته والخشوع في ذلك، والذب عنه والوقوف مع أحكامه، واليقين بأنه يهدي للتي هي أقوم.
وأما النصيحة لرسوله فتكون بطاعة الرسول فيما أمر وتصديقه فيما أخبر والانتهاء عمّا نهى عنه وزجر وألا يعبد الله إلا بما شرع على لسان نبيّه.
وأما النصح لأئمة المسلمين فبمعاونتهم على الحق وطاعتهم، وتذكيره برفق وإعلامهم بما غفلوا عنه، وتأليف القلوب لهم، ولهذه النصيحة شروط وضوابط مقررة في كتب أهل العلم، وأما نصيحة عامة المسلمين فإرشادهم لمصالحهم في آخرتهم ودنياهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، فكل حق للمسلم على المسلم يدخل في النصح لعامة المسلمين.
إن هذا الحديث جمع كلّ ما تقدم بأخصر عبارة وأفصح بيان وجمع كما يقول بعض العلماء ـ خيري الدنيا والآخرة.
(2) ـ "عن أبي محمد الحسن بن علي بن أبي طالب سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانته رضي الله عنهما قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" (رواه الترمذي والنسائي وقال الترمذي حديث حسن صحيح).
كلام بيّن فصل جامع موجز اشتمل على معان واسعة الأمداء والآفاق، فالحسن رضي الله عنه يقول:"حفظت" وفي هذا إشارة إلى أهمية المحفوظ وشرفه، وإن معنى هذا الحديث قريب من قول النبي في حديث النعمان بن بشير" فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام" وقول النبي صلى الله عليه وسلم:"فدع ما يريبك" إشارة إلى كل ما فيه شك وريب فما كان هذا سبيله ففيه رصيد من عدم الطمأنينة، فلا بد من تركه إلى ما هو يقين وطمأنينة، فترك المشتبهات إلى أمر يقيني هو أصل عام، فالحديث يدل على هذه القاعدة العظيمة، في أن المسلم يبحث عن اليقين دوما في كل أموره، وإذا أشبه أمر في حلال أو حرام فإنه يتركه إلى اليقين أو إلى ما هو حلال في يقينه بل إن العبادات والشعائر كلها قائمة على اليقين "وإن الظهر لا يغني من الحق شيئا" وإذا تقرر ذلك فإن للحديث تكملة وهي قول النبي صلى الله عليه وسلم " فإن الخير طمأنينة وإن الكذب ريبه"، ومن هنا كان هذا الحديث أصلا في الورع وترك المشتبهات، وقد قال بعض السلف: "إذا أتاني أمر فيه ريبة تركته" ولا سيما عند المخبتين المخلصين، وفي هذا راحة النفس وطمأنينة القلب.
¥