تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

(3) ـ عن حذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا، فأيّ قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأيّ قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض والآخر أسود مربادٌ كالكوز مجحيا، لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما شرب من هواه" (رواه مسلم).

إن نظرة متأنيّة إلى السياق النبوي السابق تقدّم لنا تحليلا نفسيا لواقع الفتن التي ستعصف بالأمة الإسلامية، ويقدم لنا ا لسياق ذلك عن طريق التمثيل فعرض الفتن والمحن أشبه بالحصير، مثلما تجمع الحصير ونسج بالعود حتى يصير حصيرا، كذلك الفتن تتجمع حتى تعصف بالإنسان وتستبد به.

وما أشبه القلب الذي أشربه بالإناء المقلوب الذي لا ينفع لسائل، فهو أسود مرباد قذر، وهذا حال من غرق في بحر الفتن حتى أصبح كريشة في مهب الريح وتستوقفنا طريقة عرض النبي عليه السلام لهذه الفتن، وما يلفّ هذا العرض من رهبة وهلع في طريقة العرض التدرجي "عودا عودا" ثم تأتي التضادات والتوازيات والتنويع، "فأيّ قلب أشربها نكتت سوداء، وأيّ قلب أنكرها نكتت فيه نكته بيضاء" وتأمل في "أشربه وأنكرها" لفظان متشابهان في البناء متضادان في المعنى وكذا "بيضاء وسوداء"، وكذلك الصفا الصلب والكوز اللين الرخو، ثم تتوالى النتائج، فالفائز الناجي "لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض" وأما الهالك فيوصف بأنه" مرباد" مشبّها بالكوز ومجخيا أي منكوسا، وهذا يدل على انتكاس القلب.

والحديث كما هو ظاهر بدأ بالإجمال والتأصيل "تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا" وفي هذا الإجمال من التشويق ما فيه، ثم يأتي التفصيل وما فيه من عرض للجزئيات في تضاد وتمثيل يجعل المعنى جليا كأنه ماثل أمام البصر.

إنه البيان النبوي الذي سار وفق سياق موجز يحذر المؤمن من مزالق الفتن، والحديث يشي بأهمية المحافظة عل الطاعة في حفظ الإيمان والتحذير من المعصية والإفتتان ببهارج الدنيا المادية والفكرية كل ذلك حرصا على بقاء الخيرية في هذه الأمة "كنتم خير أمة أخرجت للناس". ولا ريب أن هذه الخيريّة لن تدوم ما لم تتحصّن الأمة من عوامل الفتن التي تموج موج البحر.

(4) ـ "عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلّم: أوصني، قال: لا تغضب، فردّد مرارا، قال: لا تغضب" (رواه البخاري).

عند التأمل في هذا السياق النبوي البيّن نرى أن إفادة من طلب الوصيّة بشيء واحد فقط يكون أدعى للاهتمام وتطبيق الوصيّة، والوصيّة تحمل في أصل معناها التوجه نحو الخير، فقول الأعرابي: أوصني أي: دلني على كلام تخصني فيه من الخير، وقوله عليه السلام "لا تغضب" فيه دلالة على أن الموصى ينبغي ألا يتخلف عن هذه الوصية، ولهذه العبارة موردان:

الأولى: لا تغضب: أي إذا أتت دواعي الغضب فكظم غيظك، قال تعالى: (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس) وفي الحديث الصحيح: "من كظم غيظاً وهو قادر على إنفاذه دعى على رؤوس الخلائق يوم القيامة".

الثانية: لا تغضب أي: لا تسع فيما يغضبك لأنه من المتقرر أن الوسائل تؤدي إلى الغايات، فإذا علمت أن هذا الأمر سيؤدي إلى ما فيه إغضابك فعليك ألا تسعى في هذه الوسائل، فالنهي عن الغضب فيه نهي عن إنفاذ الغضب وغشيان وسائله ولات ساعة مندم.

من أجل هذا كله كان التأكيد النبوي في السياق السابق ضروريا لعلاج هذا الداء الوبيل ودواعيه.

وبعد هذه الجولة القصيرة في رحاب هذه الأحاديث يتبيّن لنا أن المعاني الجمّة والأحكام الكثيرة استجمعها عليه السلام في لفظ موجز معبر.

كيف لا وقد قالت عائشة رضي الله عنها: "ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد كسردكم هذا ولكن كان يحدّث حديثا لو عده العادّ لأحصاه" وهو كلام محفوف بنور الوحي وضياء اليقين "وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى".

فإن كان ذلك كذلك فهيهات أن يعتري كلامه لبس أو يتخونه نقص، وليس إحكام الأداء وروعة، الفصاحة وعذوبة المنطق وسلاسة النظم إلا صفات كان عليه السلام هو رائدها ومالك زمامها.

ـ[أحمد الغنام]ــــــــ[28 - 08 - 2007, 11:10 ص]ـ

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير