دعوة للمباحثة والاستفادة حول الجرِّ بالمجاورة (جحر ضبٍّ خربٍ)
ـ[أبو عبدالله الأثري]ــــــــ[27 - 11 - 2005, 12:45 م]ـ
:::
من الأمور المقررة عند بعض النحاة الجر بالمجاورة, واستدلوا على هذا بما ينقلونه عن العرب قولَهم: ((هذا جحرُ ضبٍّ خربٍ)) , فالأصل أن يُقال: ((خربٌ)) لأنه صفة للجحر لا الضب, ولكنه أخذ حركة الضب وهي الكسرة بسبب المجاورة, هذا ما يذكره النحاة, وقد وقعت على كلامٍ لعلامة الجزائر الشيخ محمد البشير الإبراهيمي (ت 1384 - 1964) رحمه الله حول هذا الموضوع, فأحببتُ أن أنقله لإخواني لأستفيد مِن تعليقاتهم عليه, والكلام موجود في: (آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي 2/ 44 ظ. دار الغرب الإسلامي) وهذا هو: يقول رحمه الله:
(( .... ولكن المثال البارد الفج ((الصامط “1”)) الذي لا يثير في النفس اهتماماً, بل يثير فيها اغتماماً؛ هو المثال الذي تعلمناه من كتب النحو, وهو قولهم: هذا جحرُ ضبٍّ خربٍ.
يُمثلون به للجر بالمجاورةِ أو بالتوهمِ لا أدري! وإنما الذي أدريه هو أنَّ هذا النوع مِن الجرِّ مسموعٌ عن العرب, وهو مِن شذوذاتهم اللغوية وانحرافاتهم عن مقاييس لغتهم, وهو مقبول منهم, لكنه مقصورٌ على ما سُمِعَ منهم, فلا يسوغ لنا نحن طرده من كلامنا حتى لا نفسد اللغة على أنفسنا بهدم القواعد الصحيحة والجريِ على غير منهاج, ولهذه الشذوذات في العربية فلسفةٌ خاصة لم يُشبعنا أحد بالحديث عنها حتى الآن, ولو وجدتُ متسعاً من الوقت لكتبت فيها ما يصح أن يكون نواةً في الموضوعِ؛ إذا تعاهده الباحثون أصبح شجرةً ذات أكل شهي, ولفيلسوف هذا الفنِّ أبي الفتح عثمان بن جني جُمَلٌ متفرقة في هذا الموضوع, لكنها تنطوي على نظراتٍ سديدة, وتدلُّ على انفساح ذرع الرجل في هذا العلم, وإذا كان هذا النوع مِن الجرِّ مسموعاً موقوفاً على السماع فلستُ على ثقةٍ من أن مثال النحاة مسموعٌ من العرب, وإنما هو مثالٌ سوقيٌّ انتحلوه, ثم قلَّد آخرُهم أولَهم فيه على عاداتهم, وهل يصحُّ لهم أن يمثلوا لمسألةٍ سماعيةٍ بمثالٍ مصنوع؟ لا.
ودليلي على أن المثال مصنوع أمران:
الأول: أنَّ نطق العرب لا يساعد على ما ادَّعاه النحاة فيه؛ لأن كلمة خرب التي يَدَّعي النحاة جرها جاءت مقطعاً في الجملة لم تعقبها كلمة أخرى, فإذا نطق بها عربيٌّ نطق بها ساكنةَ الآخِر بلا شك, فمن أين يظهر الجرُّ الذي ادَّعوه فيها؟
ووددت لو ذاكرتُ بعض نحاة العصر المفتونين بالمباحث اللفظية العقيمة في هذا التوجيه لأسمع رأيهم, وما عسى أن يأتوا به من حججٍ فارغة, وكم في كلام الفارغين من تسليةٍ للهمِّ وتزجيةٍ للوقت وترويحٍ للخواطر المكدودة, بشرط أن يكون السامع موفور الحظِّ مِن الصبر.
والثاني: أن معنى المثال على برودته وجفافه لا يتفق مع ما يَعرف العرب عن الضب مِن أنه لا يحفر جحره إلا في الكدى (جمع كدية) وهي جبيلٌ صلبُ الأرض متماسكُ التراب, ولذلك يضيفونه إليها كثيراً, فيقولون: ضب الكدية, وضب الكدى, يستعملون هذا كثيراً في كلامهم, وفي مقصورة ابن دريد بيت مختومة بضب الكدى ولا أذكرها الآن وليس عندي ما أراجعها فيه, وقد قال الشاعر:
سقى الله أرضاً يعلمُ الضبُّ أنَّها بعيدٌ عن الأدواءِ طيبةُ البقلِ
بنى بيتَهُ فيهِ على رأسِ كُدَيَّةٍ وكلُّ امرئٍ في حرفةِ العيش ذو عقلِ
فقد وصف هذه الأرضَ التي اختارها الضب لسكناه بأنَّ الضب - وهو الاختصاصي في هذه الهندسة - كأنه يعلم أنها بعيدة من الآفات, وأكبر الآفات في نظر الضب السقوط والانهيار والخراب.
وقال الشاعر الآخر فزاد المعنى المراد توضيحاً وهو يتحدَّث عن الضب:
ويحفر في الكدى خوفَ انهيارِ ويجعل بيتَه رأس الوجينِ
والوجين: هو الأرض الصلبة الغليظة, ومن هذه الكلمة جاء قولهم: رجل موجّن؛ قوي عظام الأضلاع والصدر, ومنها ميجنة الثياب؛ آلة تدق بها, ومنها جلد موجّن؛ مضروب بعد الدبغ حتى تتداخل أجزاؤه وتلطف فيلين مع القوة, فهذا البيت شاهدٌ على أنه " ليس جحرُ ضبٍّ خرباً ", ولهذه الخاصية في اختيار الضب للكدى, تصفه العرب بصفة ملازمة فيقولون " ضب دامي الأظافير " جمع أظفور, قال الشاعر:
ترى الشرَّ قد أفنى دوائرَ وجههِ كضبِّ الكدى أفنى أناملَهُ الحَفْرُ
¥