الذي يعلم أزلا أن المصلحة منوطة بالمنسوخ زمن العمل به، وبالناسخ زمن العمل به، بخلاف البداء الذي يلزم منه علم طارئ على جهل سابق، وذلك مما يتنزه عنه الباري، عز وجل، المتصف بكمال وإحاطة العلم وكمال الحكمة، فأين هذا من ذاك، وكيف يحترز بنفي النسخ من البداء، والنسخ: مئنة من كمال حكمة الشارع، عز وجل، الذي يشرع لكل أمة ولكل زمان ما يلائمه من الأحكام، بل من أحكامه ما هو منسوء تبعا للمصلحة الشرعية المعتبرة لا المصالح العقلية المتوهمة، فالأصل ثابت لم ينسخ، ولكن المصلحة قد تقتضي منعه، كمنع ادخار لحم الأضاحي فوق ثلاث حال المجاعة، فالأصل في ادخار اللحم الجواز، والحكم باق، ولكنه يمنع حال المجاعة اعتبارا لمصلحة الإطعام، وهي مصلحة شرعية معتبرة، وذلك شرع من لدن حكيم خبير بدقائق الأمور ودخائل النفوس. بينما البداء: مئنة من جهل صاحبه إذ بدا له ما كان عنه خافيا، كما تقدم، فأين عقول من يعظمون الله، عز وجل، بالبداء، فيثنون عليه بعين النقص!.
وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ: التفات من المصدر الصريح الذي دل عليه السياق اقتضاء: "النكاح" إلى المصدر المؤول من "أن" ومدخولها: "وأن تجمعوا" عناية بشأن المذكور إذ الالتفات مظنة الانتباه فضلا عما للمصدر المؤول من الدلالة التوكيدية، وعموم المصدر المعنوي يشمل الجمع بينهما بشتى الصور: نكاح أو ملك يمين ........... إلخ، وإليه أشار الرازي، رحمه الله، بقوله: "إن هذه الآيات دالة على تحريم الجمع أيضا، لأن المسلمين أجمعوا على أنه لا يجوز الجمع بين الأختين في حل الوطء، فنقول: لو جاز الجمع بينهما في الملك لجاز الجمع بينهما في الوطء لقوله تعالى: {والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافظون * إِلاَّ على أزواجهم أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهم} [المعارج: 29، 30] لكنه لا يجوز الجمع بينهما في الملك، فثبت أن هذه الآية بأن تكون دالة على تحريم الجمع بينهما في الملك، أولى من أن تكون دالة على الجواز ......... وإن سلمنا دلالتها على جواز الجمع، لكن نقول: الترجيح لجانب الحرمة، ويدل عليه وجوه:
الأول: قوله عليه الصلاة والسلام: «ما اجتمع الحرام والحلال إلا وغلب الحرام الحلال».
(والحديث عند البيهقي، رحمه الله، في: "السنن الكبرى" موقوفا على ابن مسعود، رضي الله عنه، من طريق جابر الجعفي، وهو ضعيف.
قال، رحمه الله، عقب إخراجه: "إنما رواه جابر الجعفي عن الشعبي عن ابن مسعود وجابر الجعفي ضعيف والشعبي عن ابن مسعود منقطع وإنما رواه غيره بمعناه". اهـ
وقال في "معرفة السنن والآثار": "وأما الذي روي عن ابن مسعود من قوله: ما اجتمع الحرام والحلال إلا غلب الحرام الحلال، فهو بما رواه جابر الجعفي، عن الشعبي، عن ابن مسعود، وجابر ضعيف، والشعبي، عن ابن مسعود منقطع، وإنما روي عن الشعبي من قوله". اهـ، فالراجح أنه: مقطوع إذ وُقِف على تابعي هو الشعبي رحمه الله.
وقال صاحب "التقرير والتحبير": "هَذَا مُتَعَقَّبٌ بِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ مَرْفُوعًا كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ بَلْ قَالَ الْحَافِظُ الْعِرَاقِيُّ: وَلَمْ أَجِدْ لَهُ أَصْلًا انْتَهَى. (أي: مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم).
نَعَمْ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا، وَالشَّعْبِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مُنْقَطِعٌ ثُمَّ لَهُ مُعَارِضٌ فَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ {لَا يُحَرِّمُ الْحَرَامُ الْحَلَالَ} ............. ". اهـ).
الثاني: أنه لا شك أن الاحتياط في جانب الترك فيجب، لقوله عليه الصلاة والسلام: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك».
الثالث: أن مبنى الأبضاع في الأصل على الحرمة، بدليل أنه إذا استوت الامارات في حصول العقد مع شرائطه وفي عدمه وجب القول بالحرمة". اهـ
فالاحتياط في أمر الأعراض أولى بالاعتبار، فلو وقع خلاف في إباحة أو حرمة، فالاحتياط تغليب جانب الحرمة بخلاف المطرد من الشريعة الحنيفية السمحة في بقية الأعيان والأفعال.
¥