تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الكوني، فكما أن المكلف فاعل يقع منه الفعل بإرادة مؤثرة ومع ذلك لا تخرج عن إرادة الله، عز وجل، المكونة، فهو خالق الفاعل وفعله، فكذلك الأسباب المؤثرة، إذ هي الفاعلة بما أودع فيها من قوى كونية، فلا خروج لها عن المشيئة النافذة، إذ الله، عز وجل، أيضا، خالق السبب ومسبَبه، فقد أحاطت إرادته الكونية بكل الموجودات إيجادا وتسييرا وتأثيرا فلو شاء عطل الأسباب فلم تؤثر كما عطلها لما ألقي الخليل عليه السلام في النار، ولما جرت السكين على رقبة الذبيح عليه السلام.

والجناس والمشاكلة مطردان في معرض الشرط وجوابه فمادة السؤال قد اشتق منها الماضي في سياق الشرط، والأمر في سياق جوابه.

وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ:

فذلك مقام: (إياك نستعين)، فلن نباشر الأسباب إلا بإقدارك، ولن توجد المعلولات إلا بإنفاذك.

فذلك مقام العلة الفاعلية بعد ذكر السؤال عبادةً، فهي العلة الغائية، كما تقدم، فأتبع المسبَبُ السابق إلى الذهن اللاحق في الوجود الخارجي فرعا عن سببه، أتبع بالسبب التالي في التصور الذهني، السابق في الوجود الخارجي، فتقديم الغاية على الوسيلة لكونها أشرف منها وإن كانت فرعا عنها، والاستعانة من جهة أخرى: غاية ومقصد، إذ هي من أجل أعمال القلوب، فهي وسيلة من وجه إذ بها تكون الأعمال فلا يخلو العبد الموفق من استعانة في كل عمل يباشره من دين أو دنيا، إذ لا تحول من حال إلى حال ولا قوة على فعل ذلك، أو: لا تحول عن المعصية ولا قوة على الطاعة إلا بالله، والمخذول من يستعين بغيره على جهة الاستقلال أو الاعتقاد، إذ النفع والضر لا يكون إلا من الله، عز وجل، وقليل من سلم من نوع ركون إلى الأسباب فصار بلسان حاله متوكلا عليها لا على خالقها. وهي غاية من وجه آخر إذ يثاب العبد عليها، وإن لم يقع المراد، فقد يباشر سبب طاعة أو مباح مستعينا بمجري الأسباب، جل وعلا، فلا يقع مراده لحكمة ربانية، فيكون قد أثيب على نيته، كمن استعان بالله، عز وجل، فقصد البيت الحرام حاجا فصد عنه، أو استعان به، تبارك وتعالى، على كسب رزق حلال فمنعه. واستحضار ذلك، أيضا، مما يعين المكلف على الرضا والتسليم أعز مطلوب وأندره في باب القضاء والقدر، فعلمه يسير وعمله في المقابل عسير بل يكاد يكون في زماننا مستحيلا لما اعترى القلوب من أمراض مزمنة وأدواء معضلة.

ولا شفاء لها إلا بأدوية النبوات التي أنزلها خالق القلوب العليم بأحوالها الشافي لأدوائها.

قَدْ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ:

تحقيق بدخول: "قد" على الماضي، و "أل" في القلم: عهدية تشير إلى القلم الأول الذي خلقه الله، عز وجل، على كيفية تتصورها عقولنا ولا تدرك كنهها، مصداق حديث عبادة بن الصامت، رضي الله عنه، مرفوعا: (إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ فَقَالَ لَهُ اكْتُبْ قَالَ رَبِّ وَمَاذَا أَكْتُبُ قَالَ اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ)، فأجراه بما هو كائن إلى قيام الساعة، قضاء مبرما لا يقبل المحو أو التبديل، فذلك مسطور اللوح المحفوظ، بخلاف مسطور صحف الملائكة فهي تقبل المحو والتبديل فرعا عن أسباب مؤثرة، من صلة رحم تطيل العمر ............ إلخ، مع كونها لا تخرج بذلك عما سطر بالقلم الأول، فهي للقدر الكوني النافذ: تابعة، وإن توقفت على مباشرة العبد أسباب القدر الشرعي الحاكم، فلا يخرج مفعول العبد: طاعة أو معصية عن مشيئة الرب جل وعلا.

والتكنية بجفاف القلم عن حتمية القدر الكوني من أبلغ الكنايات، كما يقول ابن رجب رحمه الله، إذ الجفاف مئنة من رسوخ المكتوب فلا يتبدل، ولا يمنع ذلك من جهة التصور العقلي: وجود مداد قد سطرت به الأقدار وجفت به الصحف، إذ لا علم لنا بكيفية ذلك، وإن كنا نتصوره عقلا، فليس محالا أو واجبا، وإنما هو من الممكن، وفي باب الغيبيات لا يكفي مجرد الإمكان في: الإثبات، بل لا بد من التوقف إثباتا أو نفيا حتى يرد الخبر فهو العمدة في هذا الباب، بخلاف المحال كوصف الله، عز وجل، بصفات النقص التي يتنزه عنها فذلك من المحال الذاتي الذي لا يتصور أصلا ليحكم عليه، بل هو منفي ابتداء، بقيد كونه نقصا بالفعل، لا توهم نقص كما وقع من مؤولة صفات الله،

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير