تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

يقول الظالمون علوا كبيرا.

وأبرز أدلة ذلك الفقر الذاتي: الرغبة الملحة في نفس كل عاقل في الفوز بالثواب والنجاة من العقاب، وذلك أمر متصور في عالم الشهادة، في نطاق العقوبات البشرية، سواء أكانت شرعية، أو حتى وضعية، ولله المثل الأعلى فالرغبة في الفوز بجنته والنجاة من ناره: أسمى غايات العبد في دار الجزاء، كما أن أعظم غايات إيجاه في دار الابتلاء: تحقيق معاني العبودية، وفي التنزيل: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)، فهو الغني عن عباده فلا حاجة له فيما بين أيديهم من رزق عموما، ومطعوم خصوصا، إذ الطعام من آكد الأسباب الدالة على الفقر الذي تنزه عنه الباري عز وجل.

ومما زلوا فيع أيضا: مسألة نفي الحاجة أو الغاية في باب العبودية لظنهم أن ذلك نقص قادح في كمال العبودية، فليس من عبد الله، عز وجل، عندهم لذاته، كمن عبده رغبة في ثوابه، ورهبة من عقابه، واستدلوا لذلك بنحو قوله تعالى: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا)، فلا يطعمونهم رجاء ثوابه، وإنما رغبة في ذاته.

ونسب إلى كثير من أهل الفضل منهم لا سيما المتقدمين مقالات تقدح في معنى الفقر الذاتي الذي لا ينفك العبد عن الاتصاف به، فنسب إلى:

رابعة العدوية، رحمها الله، مقالات من قبيل: "ما عبدتك طمعا في جنتك أو خوفا من نارك" أو كلمة نحوها.

وقال بعضهم ما معناه: إن الله، عز وجل، قد أمر الخلق بعبادته ونحلهم الجنة نحلة، فانشغلوا بالهبة عن واهبها.

فصار جل همهم عبادة الله، عز وجل، بالحب فقط، تغليبا لجانب الرغبة على جانب الرهبة حتى وقعوا في الإرجاء، بخلاف الخوارج الذين عبدوا الله، عز وجل، بالخوف فقط، تغليبا لجانب الرهبة على جانب الرغبة حتى وقعوا في اليأس والقنوط وغلوا في باب الأسماء والأحكام فكفروا من لم يسر على طريقتهم.

وأما أهل السنة فقد جمعوا بين الوصفين، فعبدوا الله، عز وجل، بالخوف والرجاء، بالرهبة والرغبة، وذلك مظنة التوسط في هذا الباب الجليل، فلا جفاء يحمل صاحبه على التفريط، و لا غلو بالتغليظ على مرتكب الكبيرة فيكون كافرا عند الله، عز وجل، مآلة الخلود في العذاب، وهذا خلاف ما جاءت به النصوص من كونه تحت المشيئة، فإن شاء الله، عز وجل، عفا عنه فضلا، وإن شاء عذبه عدلا.

فصار الأمر من باب السعي في الخروج عن حد العبودية إلى حد الربوبية بإظهار الاستخفاف بـ: الجنة متعلق ثوابه الذي يحمل الناس على امتثال الشرع رغبة فيه، والنار: متعلق عقابه الذي يحمل الناس على عدم مخالفة الشرع رهبة منه. وذلك نقض لدليل الفقر الذاتي، دليل: الرغبة في الثواب والرهبة من العقاب، إذ ذلك من أخص الأدلة التي يثبت بها الفقر الذاتي على جهة المدح، لكونه قد وقع من العبد اختيارا، فهو فقر شرعي يترقى صاحبه في معاريج كمال العبودية، وهو الفقر الذي وصف به آل زكريا عليه السلام في معرض المدح بإجابة الدعاء في قوله تعالى: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ).

وهو الفقر الذي كان يدندن حوله النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ كَيْفَ تَقُولُ فِي الصَّلَاةِ قَالَ أَتَشَهَّدُ وَأَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ النَّارِ أَمَا إِنِّي لَا أُحْسِنُ دَنْدَنَتَكَ وَلَا دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ.

فكيف يكون الاتصاف بهذا الفقر الاختياري، وهو مئنة من كمال العبودية الخاصة، كيف يكون نقصا في العبودية بدعوى أنه اشتغال بالثواب عن الله، عز وجل، الذي صار الفناء في ذاته، أو فناء شهود الأسباب الكونية، هو المراد لذاته، وذلك من الغلو في إثبات الربوبية، وقد صار بغلاتهم إلى مقالة الاتحادية، دون الفناء الشرعي عن معصيته بطاعته، وهو الفناء الذي قررته النبوات فهو الغاية العظمى من خلق العباد.

وكيف يكون نقصا، وهو عين مراد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أعلم الناس بمراضي ربه ومساخطه، وهل يختار النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم المفضول ويختار من بعده الفاضل وهو دونه في المنزلة بالإجماع إلا على طريقة من يجعل مرتبة الولاية أعلى من مرتبة النبوة وذلك من الكفر الصراح وإن ادعى صاحبه علم الحقيقة الباطنة بوصفه من الخاصة دون الشريعة الظاهرة التي لا تصلح إلا للعامة.

ودائما ما يكون الحط من قدر النبوات بالسير على غير هداها، في الإلهيات كما وقع من المتكلمين، أو الحكميات كما وقع من أهل الرأي، أو السياسات كما وقع من أرباب السلطان من الملوك والأمراء، أو الذوقيات كما وقع من أرباب الفقر، دائما ما يكون سمة بارزة في مسالك أصحاب المقالات والطرق والرسوم المحدثة. ولو تضلعوا من علوم النبوات ما احتاجوا لغيرها، ولكنهم لبعدهم عنها افتقروا إلى غيرها فكان القياس والذوق الفاسدان عوضا منها، وبئس العوض!.

وأما استدلالهم بنحو قوله تعالى: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا)، فإن الآية التالية: (إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا) تنقضه إذ فيها إثبات ما نفوه من رهبة أهل الحق من أهوال يوم الجزاء، ولم يحط ذلك من منزلتهم، بل ذكر في سياق الثناء عليهم، فعمد القوم إلى الآية السابقة، وبتروها من سياقها ليسلم لهم استدلالهم بها، وتلك طريقة أهل المقالات الحادثة في استقطاع النصوص، فيأخذون ما يشهد لمقالتهم ويطرحون ما ينقضها.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير