تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وعلة احتياج العالم إلى الله، عز وجل، هي ما قرره التنزيل: "أنتم الفقراء"، وإن كان تقرير الفلاسفة المتقدم، صحيحا من جهة الدلالة العقلية، ولكنه ليس نصا في محل النزاع، بل غاية ما يقال بأنه: دليل شاهد، ومنزلة الشاهد بعد الأصل، وهو من جهة أخرى مؤد إلى دليل التنزيل، إذ الممكن يفتقر إلى الواجب في إيجاده، وذلك الواجب لا يفتقر إلى غيره وإلا لزم التسلسل، والتسلسل في المؤثرين ممتنع، فتحصل من ذلك أن الممكن: فقير فقرا ذاتيا إلى من يوجده، والموجِد: ليس كذلك، فهو متصف بضده، وضد الفقر: الغنى الذاتي، وهذا قول التنزيل، فالالتزام بألفاظه الشرعية ودلالاته العقلية آكد من السير على الطرق الفلسفية إلا في معرض البيان لمن لا يفهم الحجة إلا بتلك الطرق، فيكون الأمر على حد ترجمة الشريعة إلى من لا يعرف ألفاظها، فأولئك، أيضا، لا يعرفون معانيها، وإن أحسنوا قراءة مبانيها.

فالشاهد: أن الله، عز وجل، لا يفتقر إلى سبب، فغناه ذاتي لازم، بل الأسباب هي المفتقرة إليه، فهو خالقها ومجريها وفق سننه الكونية النافذة، فهو الغني في ذاته على جهة اللزوم، المغني لغيره على جهة التعدي، فكل ما سواه مفتقر إليه إيجادا، كما تقدم، وإعدادا للقلوب والأبدان لتقبل أثر الأغذية النافعة من الوحي النازل والرزق النابت، وإمدادا بأسباب صلاح الأديان والأبدان في دار الابتلاء، فأمدهم بوحي النبوات بعد أن هيأ قلوبهم لتلقيه بما ركز فيهم من فطرة توحيدية سالمة من آفات الشرك وأمدهم بطيبات الرزق بعد أن هيأ أبدانهم للانتفاع بها، وهم مع ذلك: المفتقرون إليه إبقاء في دار البقاء، فبقاؤهم وإن خلدوا: بإبقاء الله، عز وجل، لهم، لا ببقاء ذاتي قام بهم، بخلاف بقاءه، عز وجل، فهو كغناه، ذاتي أزلي أبدي لا يفتقر إلى سبب، وهذا أصل مطرد في كل أوصاف الكمال الربانية.

وفي مقابل: "أنتم الفقراء": جاء وصف الله عز وجل: "والله هو الغني": مؤكدا بتعريف الجزأين واسمية الجملة، وزيد عليهما ضمير الفصل فضلا عما تقدم من دلالة "أل" الجنسية المستغرقة لأوصاف ما دخلت عليه، ففي مقابل استغراقها أوصاف الفقر للمربوب، جاء استغراقها أوصاف الغنى للرب جل وعلا.

فالمقابلة البلاغية حاصلة بين جملتي: "أنتم الفقراء"، و: "الله هو الغني" فمقابل المربوبين مرجع الضمير "أنتم": "الله"، عز وجل، الرب الخالق البارئ المصور المدبر بعد خلق الكائنات وتصويرها، ومقابل: "الفقراء": وصفهم اللازم: "الغني": وصفه اللازم.

وفي قوله: (وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ): إظهار في موضع الإضمار، توكيدا للمعنى وتربية لمعاني الهيبة في نفوس العباد بإظهار غناه في مقابل حاجتهم، ففي ذلك من معاني الترغيب: ترغيبهم في سؤال ما عنده على جهة الطمع، وفيه من معاني الترهيب: ترهيبهم من سؤال غيره فاليأس مما في أيديهم غاية الطلب، فسؤاله: توحيد، وسؤال غيره ما لا يقدر إلا عليه: شرك، سواء أكان المسئول: حيا أو ميتا، نبيا أو وليا أو صالحا.

وقد ذيلت الآية بوصف: "الحمد" المتضمن كل أوصاف الجمال، فهو من باب العموم بعد الخصوص، إذ الغنى أحد أفراد عموم جماله، وفي ذلك من الإطناب ما يلائم السياق من توكيد لوصف الغنى الذي سيقت الآية لإثباته ابتداء، إذ خص بالذكر تنويها بشأته ثم أتبع بعموم يتضمنه، فاجتمعت له دلالة الخاص الذي يدل عليه صراحة، والعام الذي يدل عليه تضمنا، فضلا عما في ذلك الإطناب من مزيد ثناء على الله، عز وجل، بورود عموم أوصافه بعد خصوص أحد أفراده، وصيغة المبالغة مئنة من التوكيد على ذلك، وقد اقترن هذان الاسمان في مواضع أخر من التنزيل كقوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)، ومع اتصافه بعموم جمال: "الحميد" متعلق الرغبة، فهو متصف بعموم جلال: "المجيد" الذي استغرق أوصاف جلاله: متعلق الرهبة من: كبرياء وجبروت وعظمة ............. إلخ.

والله أعلى وأعلم.

ـ[مهاجر]ــــــــ[23 - 07 - 2009, 07:45 ص]ـ

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير