تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فإذا كان الروح الذي تصلح به الأبدان من أمر الله الكوني: (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)، فهو مأمور مسبب عن أمر تكويني نافذ، كما تقدم، وإذا كان الروح الذي تصلح به الأديان من أمر الله الشرعي: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا)، فإن نجاة الروح المخلوق بالأمر الكوني تكون في امتثال الروح النازل بالأمر الشرعي، فالروح الأمين عليه السلام نازل بالروح الشرعي: مادة حياة القلوب على قلب النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليحيي به القلوب الميتة، على حد قوله تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا)، فكان ميتا بفساد عقد القلب وقول اللسان وعمل الجوارح، فجاء الوحي بالروح التي أنعشته، فدبت فيه الحياة باستقامة قلبه ولسانه وجوارحه على مراد الشرع الحاكم، وتلك عين النجاة التي زلت الأقدام وضلت الأفهام عن إدراكها إلا من تداركه الله، عز وجل، بنعمة النبوة الهادية.

والشاهد أن العبد فقير في كل أحواله: فقير إلى النجاة في الأولى والآخرة، فقير إلى ما يصلح قلبه من العلوم وجوارحه من الأعمال، فقير إلى ما يقيم بدنه، ففقره كائن: حسا في بدنه ومعنى في روحه، ولا يسد تلك الفاقة الذاتية إلا الله، عز وجل، بما قدر من الأسباب الكونية والشرعية، فيستعين بالأسباب الكونية من مطعوم ومشروب ................. إلخ، على حفظ بدنه، فبها يدفع أسباب الفساد الحسية فإذا أصابته آفة استعان بصنوف الدواء النافع على رفعها، فحاله حال مدافعة ومرافعة: يدفع أسباب الفساد ابتداء بتناول ما أودع الله، عز وجل، فيه قوة الغذاء فإذا وقع الفساد فإنه يرفعه بالدواء الذي أودع الله، عز وجل، فيه قوة العلاج فلا غنى له في تلك المدافعة عن ربه، عز وجل، فعليه يتوكل ولما خلق من أسباب يباشر، ويستعين بالسنن الشرعية على حفظ قلبه من آفات الشبهات، ويستعين بها على حفظ جوارحه من آفات الشهوات، وتلك مدافعة أعسر من الأولى إلا على من يسر الله، عز وجل، له أسباب الهداية، فلا غنى له فيها عن الله، عز وجل، ناصرا ومعينا على حد قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (يَا مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى طَاعَتِكَ). فحاله: فقر لازم في كل أحواله وعلى كل أنحاءه، فمن هذا حاله لا يستغني عن المقيت، جل وعلا الذي تكفل بقوت القلوب والأبدان، طرفة عين، فمن أظهر الاستغناء عن الله، عز وجل، فشاهد العيان من حاله مكذب لما أظهره من دعوى يكفي في إبطالها قطع أسباب الحياة عنه من هواء أو طعام أو شراب، فحياته الناقصة فرع عن ذاته الناقصة، في مقابل حياة الرب، جل وعلا، الكاملة التي اتصف بها على جهة اللزوم لذاته القدسية فهو الحي الذي استغرق اسمه بدلالة: "أل" كل أوصاف الحياة الكاملة، وعلى جهة التعدي إلى بقية الكائنات فهو المحيي، وقيام العبد قيام ناقص إذ لا يقوم إلا بغيره من الأسباب المقيمة، في مقابل قيومية الرب، جل وعلا، الكاملة التي اتصف بها على جهة اللزوم لذاته القدسية فهو القيوم الذي استغرق اسمه بدلالة: "أل" كل أوصاف القيومية الكاملة، وعلى جهة التعدي إلى بقية الكائنات فهو المقيم لأبدانها وأرواحها بأسباب الكون والشرع على التفصيل المتقدم.

فالقسمة ثنائية لا ثالث لها: رب غني غنى مطلقا لا يفتقر إلى سبب فغناه ذاتي، ومربوب فقير فقرا مطلقا، ولو بلغ ما بلغ من منازل النبوة والصديقية والإمامة والولاية، فهو يفتقر إلى الأسباب إذ فقره ذاتي جبلي.

فمن وجد من نفسه خيرا بأن طاوعته نفسه وانقادت له، فليحمد الله، عز وجل، إذ خلق فيه الاستطاعة الموجبة لحصول الطاعة، فضلا منه وكرامة، بلا سابق يد للعبد عنده، فليس للعباد على ربهم منة، وليس له إليهم حاجة، وإنما أنعم بالخلق ويسر أسباب الهدى لمن شاء فضلا، وقطعها عمن شاء عدلا، فلا يسأل عما يفعل لتمام قدرته وحكمته، فلا يضع الهداية إلا في محل صالح، ولا يقطعها إلا عن محل فاسد، ولو وضع الهداية في محل لا يقبلها، لكان ذلك سفها يتنزه عنه آحاد العقلاء من البشر، بمنزلة من يضع الطيب في الحشوش، كما ذكر ذلك ابن القيم

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير