أرشيف منتدى الفصيح - 1

فالفقر والغنى ليس بالأعراض الظاهرة بل هو كسب قلبي يقوم بالباطن فيظهر أثره في الخارج فيجتمع شمل النفس وتتوحد قوى الهم والعزم والإرادة لتصير على رسم الشريعة فلا يصدر عنها إلا إرادات نافعة تترجمها الجوارح إلى أعمال صالحة، فعمل الجارحة آخر مراتب الفعل فيسبقها: تصور علمي يتولد من النوازع الداخلية والهواتف الخارجية، فيتولد منه: إرادات نافعة إن كان النازع طيبا، والهاتف إلهيا أو ملائكيا، أو إرادات فاسدة إن كان النازع خبيثا، والهاتف شيطانيا: جنيا كان أو إنسيا، وكثيرا ما يكون هاتف الإنس أشد على النفس من هاتف الجن، فهاتف الإنس هاتف مباشر تدركه الحواس الباطنة والظاهرة، فـ: "الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ"، بخلاف هاتف الجن فهو هاتف غير مباشر لا تدركه إلا الحواس الباطنة فلا يتجاوز حد الوسوسة فـ: "الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة"، فيستعان عليه بالاستغفار وقاية من الوسواس النفساني الداخلي والاستعاذة من الوسواس الشيطاني الخارجي، بخلاف هاتف الإنس، فلا يكفي لرده الاستغفار والاستعاذة، بل لا بد من مجاهدة له بالتغيير فلذلك شرع إنكار المنكر، فإن عجز الإنسان عن ذلك، وغالبا ما يعجز لا سيما في الأعصار والأمصار التي يظهر فيها الباطل ويتوارى الحق، فلا مناص من الاعتزال برسم: (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا)، وفي حديث حذيفة، رضي الله عنه، مرفوعا: "فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ قَالَ فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ"، ولكل عزلة ضابطها، فالضرورة تقدر بقدرها، فلا يستوي اعتزال الكفار واعتزال عصاة الموحدين، فاعتزال الأولين كلي لفساد الأصل إلا إن كانت المخالطة برسم البر المشروع فـ: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ): تأليفا للقلوب دون إذلال للنفس أو إعطاء للدنية في الدين، أو ما لا مندوحة عنه من أمور الدنيا التي يشترك فيها جميع الخلائق، مؤمنهم وكافرهم، كبيع وشراء وطب ..... إلخ، فليست معقد ولاء وبراء، وإن كان الأليق بالمؤمن ألا يخالط إلا المؤمنين، ولو في المباحات التي لا يظهر فيها أثر التكليف، بينما اعتزال الثاني: جزئي لفساد الفرع دون الأصل، فيخالط في أمور الديانة من صلاة وصدقة وحج وجهاد لرفع راية التوحيد أو لرد معتد استباح محلة المسلمين، ولذلك نص من صنف في العقائد بمشروعية الجهاد مع كل بر وفاجر، فذلك من المسائل العملية ومع ذلك أوردها من صنف في العقائد الإيمانية مخالفة لشعار أهل البدع الذين أبطلوا فريضة الجهاد حتى ظهور مقدم في الديانة عندهم لا يعقدون راية إلا تحت إمرته، وذلك نقض صريح لشعيرة محكمة فلا تنسخ إلى قيام الساعة، فالجهاد ماض إلى قيام الساعة، وإنما تتفاوت صوره من دفع أو طلب تبعا لضعف أو قوة شوكة المسلمين ..... إلخ من الأعمال الدينية التي يلزم المكلفين الاجتماع لإظهارها فالاعتزال مظنة إبطالها، فلا يكون الاعتزال حينئذ محمودا، وإنما الاعتزال المحمود: اعتزال المنكر: كفرا كان أو معصية إن عجز المكلف عن تغييره بيد أو لسان، فحسبه آنذاك: تغييره بالقلب استبقاء لمادة حياته، فالقلب الذي لا ينكر المنكر: قلب قد مات، وإن كان صاحبه معدودا في جملة الأحياء، فلا يتصور في قلب لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا فهو كالكوز مجخيا، لا يتصور فيه: غيرة إيمانية تولد فيه حرارة الحياة فيظهر أثرها لزوما على الجوارح ولو بالانصراف عن مجالس الباطل.

والشاهد أن القلب هو الأساس في مسألة الكسب: فكسب الجوارح لكسبه تبع، فأصل كل حركة خارجية: إرادة داخلية يأتي الخارج مصدقا لها على رسم: "والنفس تمَنّى وتشتهي، والفرج يُصَدِّق ذلك أو يُكذبه".

¥